المحامي زهير قتلان
تعريف:
العقد بمعناه العام، هو اتفاق إرادتين متطابقتين على أمر مشروع قانونًا بإيجاب من أحدهما وقبول من الطرف الآخر يرتب في ذمة كل منهما التزاماتٍ متقابلة. وقد يكون هذا الالتزام لمصلحة الغير “اشتراط لمصلحة الغير”، والالتزام لمصلحة الغير ينشئ لهذا الغير حقاً ولا يرتب بذمته التزامًا.
العقد القومي الاجتماعي “عهد”
أما العقد القومي الاجتماعي، فهو عهدٌ وليس اتفاقًا. عهد بين طرفين تعاهدا على تحقيق أمر خطير يساوي وجودهما، لا حِيَدَةَ عن دربه. درب يمتد مع التاريخ، يسير معه ويخط على صفحاته بالعرق تارةً وبالصبر على الألم حينًا، وبالأحمر القاني أحيانًا، نضال المؤمنين بالأمة لإعادتها إلى مكانتها تحت الشمس. مَوثِقُهُ: شرفٌ وحقيقة ومعتقد. يقول مؤسس الحزب:
“إننا في الحزب السوري القومي الاجتماعي، تعاهدنا على تحقيق أمر خطير يساوي وجودنا. وإننا عن هذا الأمر لن نحيد ولو تراكمت جثثنا على طريق الحياة كي تطأها الأجيال القادمة سلمًا نحو المجد.” ويقول في خطابـه المنهجـي الأول الـذي ألقـاه فـي العـام 1935: “نحن في الحزب لأننا في قضية تجمعنا، من أجلها نقف معا ونسقط معًـا.”
بالمقارنة بين العقدين، نجد بداية أن الأول اتفاق، بينما الثاني هو عهد. فما هو الفارق بين الاتفاق والعهد في هذا المجال من حيث الالتزام وطبيعة هذا الالتزام؟ الفارق هو في المعقود عليه “محل العقد”. فالمحل في الأول هو قيام بعمل أو امتناع عن عمل. الباعث فيه، مصلـحة طرفيه، مصلحة فردية، ولنقل منفعة فردية. التزام العاقد الأول، حقٌّ للثاني، والعكس بالعكس، ينتهي بانتهاء العمل المعقود عليه. كما وينتهي باتفاق طرفيه، أو عبر الطرق التي حددها القانون الذي شَرّعَه.
أما المعقود عليه في الثاني، فهو يساوي وجود طرفيه – الداعي له والمقبلون عليه – الّلذَين اجتمعا على التزام واحد هو إيمانٌ بقضية أسمى من وجودهم، إيمـان ألّف بين قلوبهم ووحـّد جهودهم وجمع زنودهم. المعقود عليه، مطلب حياتي دائم لا ينتهي. هو رسالة تحملها الأمة في تعاقب أجيالها ترمي الى تحقيق ارتقائها وديمومة عزها وسيادتها على نفسها في وطنها.
من هنا نجد أن الطبيعة القانونية للعقد القومي الاجتماعي هي التزام طرفيه معًا بالتزام واحد. هو التزامٌ بقضية أمة، وعهد بتحقيق ارتقائها والذود عنها والتضحية في سبيلها. إيمانٌ تضمحل فيه الأنا، غَيرِيُّ المصلحة. الغير هنا هو الأمة والمصلحة فيه هي مصلحة الأمة التي هي فوق كل مصلحة.
الباعث على التعاقد
لكي نعرف الباعث على تأسيس الحركة القومية الاجتماعية والدعوة إلى اعتناق مبادئها والعمل على بعث نهضتها، يجب الوقوف على واقعين اثنين هما: التعريف بالتاريخ الحضاري للأمة من خلال إطلالة سريعة على بعض المعالم. والواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي للشعب في الوطن السوري عمومًا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والوضع السياسي للأمة السورية خلال هذه الحقبة.
لست هنا في مجال التأريخ، إنما بصدد إشارة ونظرة عجلى خاطفة لواقع أمة في حقبة زمنية، فقدت فيها سيادتها على نفسها. ففقدت هويتها. لخّصها سعاده في خطاب ألقاه في الأول من آذار عام 1935 نسمعه يقول:
“لم تتعرض أمة لحوادث تاريخية عظيمة ذات تأثير طويل على تاريخها وحياتها، كالحوادث التاريخية التي ألمّت بأمتنا العظيمة، وأبقتها تحت تأثيرها الطويل. فما كادت سورية تعود إلى ثبات شخصيتها ومزاياها على عهد الإمبراطورية الرومانية، حتى جاءها الفتح العربي الذي اقتضى تغيير لغتها. ثم جاء فتح المغول الذي نكب البلاد وهدم دمشق. ثم أعقبه الفتح التركي القاهر. وهذه الحوادث التي تكون الحروب الصليبية فصلاً من فصولها، قطعت المجرى الثقافي الذي كان سائرًا، وجعلت مصير الأمة معلقًا على تفاعل هذه العوامل وتجاذبها السيادة، وأوجدت حالة سادت فيها الفوضى الاجتماعية والاقتصادية فاضطرب سير العمران في هذه البلاد الجميلة التي التقت فيها الجحافل المتطاحنة الزاحفة من الجنوب ومن الشمال ومن الغرب، في طور من أطوار التاريخ الكثيرة والحوادث الخطيرة. وتضعضعت العقلية تحت ضربات الحروب والفتوحات فضاعت المعنويات السورية التي قامت بالثورات العمرانية الثقافية الكبرى، وزرعت المدن البحرية في جهات المتوسط، وحملت إلى جميع شواطئه فنون الحضارة السورية وأمدت الإغريق بالأساطير الفلسفية والفلسفات، ووضعت أسس التمدن الحديث. وانحدرت الأمة في مهاوي الخمول قرونًا متطاولة.
كان من وراء هذه الأطوار القاسية التي مرت بالأمة، أن الفضائل الكبرى التي امتازت بها أمتنا، وانبثق منها فجر التمدن، غارت تحت أطباق الخراب والانحلال القومي، وحلت محلها خصال غير جديرة بإنهاض الأمة من كبوتها. وتبع ضياع المعنويات ضياع الشخصية القومية ومصالحها الكبرى.”
– سعاده الآثار الكاملة الجزء /3 خطاب أول آذار 1935-
أنقل هنا وبإيجاز مفرط في الإيجاز، بعضًا من بعض البعض، مما كتبه المؤرخون عن سورية في التاريخ. يقول الدكتور فيليب حتي في كتابه “تاريخ سورية”:
“تحتل سورية مكانة فريدة في تاريخ العالم. وقد كان فضلها على رقيّ البشرية من الناحيتين الفكرية والروحية، أجلّ شأنًا من فضل أي بلد آخر.. وربما كانت أكبر بلد صغير على الخريطة، فهي صغيرة في حجمها ولكنها عالمية في تأثيرها.. فإن أي إنسان غربي متمدن، يمكن أن يدّعي الانتساب إلى بلدين بلده وسورية.. والسوريون القدماء، لم يتحفوا العالم بأبدع الأفكار وأرفعها فحسب، وإنما أوجدوا وسيلة للتعبير عن هذه الأفكار بتلك العلامات البسيطة المظهر، ذات المفعول السحري التي تسمى الأبجدية، والتي بواسطتها دُوٍنت أعظم الآداب العالمية وحفظت..”
كما يقول الدكتور عبد الله الحلو في كتابه – تاريخ سوريه القديم ج/1 تحت عنوان سورية مسرح التاريخ العالمي: “ليس هناك من بقعة في الكرة الأرضية، فاقت الهلال الخصيب في ازدحام الأحداث السياسية والعسكرية وتهافت القوى الخارجية عليها عبر كل العصور..” ويروي مراحل الصراعات الداخلية، التي انتهت بنشوء أول إمبراطورية في التاريخ، بزعامة سرجون الكبير وأسرته في القرن الرابع والعشرين ق.م، التي وحدت سورية الطبيعية بكاملها. ومن ثم كيف أن غياب الملوك الأقوياء أدى إلى ظهور النزعات الاستقلالية التي عملت على تجزئة البلاد، وكان من نتائجها غزوات خارجية مدمرة أتلفت الكثير من المعالم الحضارية والثقافية، لتنهض من جديد في الألف الثاني قبل الميلاد، في تَحَوُّلٍ قادَته أسرةٌ أمورية من بابل بلغت أوجها في عهد حمورابي، فكانت الامبراطورية الثانية في تاريخ الهلال الخصيب ويتابع مسيرة مسرح التاريخ العالمي ليصل الى سيطرة اليونان ومن بعدها سيطرة الرومان – التي كتب عنها الرفيق الأستاذ الباحث القومي الاجتماعي عيسى فؤاد ندره اليازجي في مؤلفه “أباطرة سوريون في العصر الروماني”، عن دور سورية وأثر الثقافة السورية فيه. نعود الى مؤلف الدكتور عبد الله الحلو لنقرأ:
“..وكان التحول الكبير مرة أخرى، وهذه المرة من الجنوب في قدوم العرب الفاتحين.. ولكن ما ميز هذه الحقبة، أن دمشق صارت عاصمة عالمية (فترة الأمويين)، لتحل محلها بغداد بعد حين، ولم يطل الأمر حتى ازداد نفوذ الغرباء ودخلت البلاد كلها في عهود طويلة من التمزق والاقتتال لعدة قرون تخللتها سيطرة فئات غريبة هنا وهناك من فرس وتركمان وأتراك.. واجتياح جيوش غريبة غازية مثل حملات الصليبيين.. ثم الاجتياح المدمر لقبائل المغول والتتار التي تركت الخراب والويلات فكانت تلك الحقبة التي استمرت كلها عدة قرون، أسوأ حقب التاريخ السوري.. ولم يكن بعد ذلك، صعبًا دخول البلاد كلها تحت سيطرة الأتراك العثمانيين، التي دامت أربعة قرون كاملة، ولم تنته إلاّ بالحرب العالمية الأولى التي كشفت عن أطماع قوى أخرى لتقاسم النفوذ. حيث تم تقاسم الهلال الخصيب فيما بينها وجعله عدة دول وُضِعَتْ لها حدودٌ سياسية.. عدا عن تكوين دولة غريبة قوامها شتات اليهود في العالم، والواقع إذا أردنا التعبير باختصار نقول إن سورية غزت العالم كله حضارة وغزاها العالم عسكريًا..”
هذه نتف من الويلات التي كانت سبب سؤال سعاده. إنه النور الذي شع من سوريه ليضيء ظلمة العالم. إنه العلم ضد الجهل، والحضارة مقابل الجاهلية. وقول سعاده: “ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة. وبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغض” ينطبق على العالم: “ليس لأمة النور أصدقاء بين أمم الظلام، وبقدر ما تبذل لهم من الأمن والسلام والحضارة يبذلون لها من الحروب والدمار.”
إن ما أشرت إليه من أحداث، كانت آخرها حقبة سيطرة العثمانيين التي امتدت أربعة قرون باسم الدين في البداية، وتحت عباءة الخلافة والدولة الإسلامية الواحدة، وانتهاء بسقوط السلطنة وتبدل نظام الحكم ونشوء الدولة التركية ومحاولات التتريك وما سبقها من فتوحات، هذه الغزوات المتعاقبة التي مرت على سورية، لم تفقدها هويتها فحسب، بل فتتت نسيجها الاجتماعي لتجعل من المجتمع الواحد، مجموعات بشرية متكلسة تلفها عباءات طائفية ومذهبية متقاتلة. ومن كيانها السياسي ولايات مقسمة إلى إمارات إقطاعية عائلية متحاربة تابعة للسلطنة العثمانية، يقتلها الفقر ويقضمها الجوع. ومن لوحة فسيفسائية عزّ جمالها في العالم، إلى قطع من فصوص أحجار متناقضة الألوان متباينة الأحجام. هذه هي سورية بواقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي يوم سأل سعاده سؤاله الشهير، سؤاله الذي كانت إجابته عليه بعد تسعة عشر عامًا بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. هذه الإجابة التي دفعت اليهودية العالمية إلى تعبئة دول العالم لاغتيال سعاده نبوخذ نصر القرن العشرين لا ليشردهم في العالم كما فعل نبوخد نصر القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، بل ليقاتلهم فهم أعداء أمتنا وأعداء ديننا الواحد. وهو القائل: “أيها السوريون، كلنا مسلمون لرب العالمين، منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة، فاتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء فقد جمعنا الإسلام، وأيد كوننا أمة، وليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا ووطننا إلاّ اليهود.” لقد اغتاله اليهود بأيد سورية ليقولوا نحن أبرياء من دم هذا الصديق، ومن لم يطلع على هذه الحقيقة، فليرجع إلى أدبيات “المرحوم كمال جنبلاط عام 1949”.
ما الذي “دفعني لتأسيس الحزب؟”
الباعث على التعاقد نجده في كتابه الى المرحوم المحامي الأستاذ حميد فرنجية جوابًا على سؤاله عن الذي دفعه إلى تأسيس الحزب. أجاب سعاده قائلًا: “كنت حدثًا عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر الى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ وبعد درس أولي منظم، قررت أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حلً بأمتي وما يحلُّ بها”. ويتابع: “وبديهي أني لم أكن أطلب الجواب من أجل المعرفة العلمية فحسب، فالعلم الذي لا ينفع كالجهل الذي لا يضر، وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب هذا الويل.”
فالباعث على التعاقد – بعد أن تم الكشف عن هوية الأمة، والوقوف على حقيقتها وإشراقات حضارتها، ومن أنها أمة معلمة وهادية للأمم – هو الإيمان بها والولاء لها، هو شعور المواطن بمواطنته. إنه الاعتزاز بكرامته القومية. هذا الاعتزاز الذي علا صوت سعاده مجلجلًا في قاعة المحكمة يوم اعتقاله الأول رداً على اتهامه بخرق وحدة البلاد الجغرافية: “إن حرمة وطني قد مزقت في سان ريمو وسيفر ولوزان.”
الباعث على التعاقد، هو التزام المواطن العفوي والفطري بوطنه وواجب العمل على تحقيق وحدة ترابه واسترداد ما اغتصب من أجزائه وإعادة سيادة الأمة على نفسها. الباعث على التعاقد هو جواب سعاده للأستاذ حميد فرنجية.
الباعث على التعاقد، مَثَلُهُ كَمِثْلِ طفلٍ أضاع أمه، فأخذ يبحث عنها ولم تقعده دموعه عن السعي للعثور عليها، وحين وجدها كانت في حالة من الضياع وفقد الوعي يقتلها الظمأ، فأعاد إليها بعضًا مما أعطته من نسغ الحياة، سقاها من عروقه ما أودعته فيها، هذا كان سعاده “ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟”. “من نحن”. ” نحن سوريون”. “نحن أمة تامة” إنها سورية، شمس حضارة، لفتها عتمة ليل طويل، صمّم على بعثها في نهضة قومية اجتماعية، ليرفع سجف هذا الليل الطويل عن حقيقتها، فوضع مبادئ استنهاضها، ودعا أبناء الأمة لنجدتها، فتوافدوا مؤمنين بعقيدته ملتزمين بقيادته منفذين قراراته بكل إيمان وبكل عزيمة صادقة.
“يتبع”