نَشرت جريدة قاسيون قبل أيام، دراسة بسيطة عن تكاليف معيشة أسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، والدراسة مبنية على حاجة الفرد اليومية من الحُريرات الغذائية، بالإضافة إلى الحاجات الحياتية الضرورية الأخرى، وقد خَلُصت إلى أن تلك الأسرة تحتاج إلى 4 ملايين ليرة شهرياً، منها مليون ونصف ليرة كحد أدنى لتكاليف الغذاء، بناءً على أسعار الأسواق الشعبية في دمشق.
مليون ونصف ليرة سورية لأسرة المكونة من 5 أفراد، أي أن تكلفة (الحد الأدنى) لطعام الفرد الواحد في سوريا تبلغ 300 ألف ليرة شهرياً، والرقم كما يعلم الجميع منطقي جداً، ويتوافق مع الغلاء المرعب في الأسواق، لكن غير المنطقي هو كيف يمكن للفرد تأمين ذلك المبلغ، والحد الأدنى للأجور في البلاد، يقل عن 93 ألف ليرة؟!
من يتقاضى الحد الأدنى للأجر يستطيع أن يأكل (ما يبقيه على قيد الحياة) من الطعام، مدة 10 أيام في الشهر فقط، بلا عائلة، ولا أي مسؤوليات أخرى، وبعدها سيموت جوعاً، حتماً، ولو على المستوى النظري، وهي نهاية مأساوية لمَن صارع من أجل العيش (كغريزة) وسط البرد، وظلام التقنين الكهربائي، الذي يصل إلى 12 ساعة قطع مقابل نصف ساعة تغذية… تلك الصورة المتوحشة لموت الإنسان، هي واقع لمن يعيش في ظل قرارات حكومية، تُرسم لبلد يسكنه الأغنياء فقط، والهم الوحيد فيه، هو ضبط إيقاع الضرائب بينهم، لفرض العدالة والمساواة.. العدالة في قتل الفقراء، والمساواة في تجاهلهم…
نادرة هي الدراسات التي تسلّط الضوء على الواقع المعيشي للسوريين، فخلال البحث لن نجد سوى بعض التقارير الإعلامية المصورة في الشارع والأسواق، لبعض المواطنين المستغيثين من نار الأسعار، وتدني الأجور، والجوع، وانعدام الخدمات.. كما سنجد تقريراً رسمياً يتيماً، تم نشر نتائجه فقط، لمسحٍ أجرتهُ هيئة تخطيط الدولة، بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي، نهاية عام 2020، خَلُص إلى أن نسبة الأسر السورية الآمنة غذائياً لا تتجاوز 5%، ومن الواضح أن تلك النسبة، هي نسبة المواطنين المرئيين في عيون القرارات الحكومية، وفي رعايتها، ولهم تُرسم الخرائط الجغرافية التي تحدد أماكن سكنهم، لتوفير ما تيسّر من خدمات، تَضمن عدم رحيلهم، فالتاريخ لا يذكر بين صفحاته وطناً بلا مواطنين..
وطنٌ للأغنياء فقط.. وطنٌ تُرسم حدوده بعناية، ويُحدد علاقاته نظام اشتراكي تقليدي، بمساواته، وضرائبه، وخدماته، وتوزيعه للملكية.. وطنٌ يقدم الدّعم لطبقاته الدنيا عبر الهواتف الذكية، وسعر أقل هاتف مستعمل في أسواقه مليون ليرة، فيتم تبرير فكرة رفع الدعم التدريجي منطقياً، لأن من يستطيع دفع مليون ليرة لشراء هاتف، ليس بحاجة إلى دعم أو مساعدة، ولن يشكّل رفع الدعم عنه خرقاً دستورياً.. وبكل شفافية، يخرج أحد مسؤولي هذا الوطن ليخبر المواطنين أن التقنين الكهربائي الذي يطاله هو 4 ساعات تغذية مقابل 4 ساعات قطع، وأنه يفضل أكل خبز الأفران الحكومية، وأنه يذهب مشياً إلى الأسواق لشراء حاجياته اليومية، فتلك الصفات والعادات تؤهله ليكون من طبقة الفقراء في الوطن المستحدث، وسينظر له أصحاب الـ (24 ساعة كهرباء في اليوم) بعين الشفقة، ويقدّرون له تضحياته.. أما المتضورون جوعاً، غير المرئيين، فعليهم مواصلة سقوطهم، علّهم يصلون إلى القاع، ويجدون أرضاً يضعون فيها قبورهم.
1 Comment
هل هناك تكملة سقطت سهواً لهذا المقال؟.