بينما تستمر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وفق الخطة المرسومة لها، وبينما تواصل دول الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تقديم السلاح والمال والمعلومات والخبراء للقوى الأوكرانية، يبدو أن واشنطن ولندن تريدان تحقيق خرق سياسي في ملف آخر ستكون له تداعيات أخطر بكثير مما يجري في شرق أوروبا حالياً. هذا الخرق لا علاقة مباشرة له بالأزمة الأطلسية ـ الروسية المتفجرة في أوكرانيا، وإنما هو مرتبط بالعملاق الصيني ومنطقة جنوب شرق آسيا. فلا تكاد تمر مناسبة إلا ويتم التصويب على القيادة الصينية ترغيباً أو ترهيباً.
بكين حتى الآن اختارت أن ترد الصاع صاعين من دون قطع كامل لصلاتها مع كل الأطراف: الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي… وأوكرانيا. ومن المعروف أن العلاقة الصينية ـ الروسية بلغت مرحلة متقدمة للغاية على المستويات المختلفة. ومع ذلك لم تتخذ بكين موقفاً حاسماً من العملية العسكرية الروسية، وإن كانت قد حمّلت الحلف الأطلسي مسؤولية استفزاز روسيا بالدرجة الأولى. إن ضبابية الموقف الصيني تجاه أحداث أوكرانيا هي جزء أساسي من الصورة التي تريد القيادة الصينية أن تطل بها على العالم في هذه الظروف الخطيرة. إنها صورة القوة العظمى الهادئة المسيطرة على زمام الأمور، المؤهلة للعب أدوار توفيقية بين القوى المتناحرة.
تنظر الصين إلى نفسها كقوة متمكنة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وتعتقد بأن الوقت قد حان لتعكس هذه الصورة أمام المجتمع الدولي من خلال الديبلوماسية الناعمة لكن الحازمة. ويحظى هذا التوجه بإمكانات اقتصادية هائلة قادرة على فتح الأبواب المغلقة. ولذلك تحرص بكين على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع أوكرانيا، وتراهن على الحد من سرعة انهيار العلاقات الروسية ـ الأطلسية… وتطرح نفسها وسيطاً مقبولاً من الجانبين لتسهيل جمع روسيا وأوكرانيا على طاولة المفاوضات الجدية.
طبعاً لا يأتي هذا المسار الصيني من فراغ، أو لمجرد تحقيق أهداف سياسية عاجلة، بل هو يتعلق بالمصالح الاقتصادية في الأسواق العالمية حيث الصين أبرز اللاعبين الكبار. إن استمرار الحرب وانخراط الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي أكثر فأكثر في خوض المواجهة مع روسيا على الأرض الآوكرانية سيؤثران سلباً على التجارة الصينية، خصوصاً مع الارتفاع الصاروخي في أسعار النفط والغاز.
والثابت حتى الآن على الأقل أن موسكو لم تطلب أية مساعدة مالية أو عسكرية من “حليفتها” الاستراتيجية الصين. والثابت أيضاً أن بكين لم تعرض أو تقدم لروسيا أي دعم ميداني. ولا يبدو أن الدولتين الحليفتين قلقتان من هذا “الترتيب” المريح. وقد تستمر هذه الصيغة على المدى المنظور طالما أن القيادة الروسية ما تزال متحكمة بمجريات العمليات العسكرية في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه مالكة زمام التصدي للعقوبات الأميركية والأوروبية.
لكن بكين على دراية تامة، خصوصاً من النواحي الاستراتيجية، بأن مصالحها العليا على المدى البعيد تكمن في أن تخرج روسيا منتصرة في المواجهة مع الحلف الأطلسي، مهما كان شكل هذا الانتصار. والقيادة الصينية تعرف أن الغرب الأميركي ـ الأوروبي يتعامل مع الصين باعتبارها القوة العالمية الصاعدة، والتي ستشكل تهديداً وجودياً للهيمنة الغربية التاريخية في العالم. إن الرؤية الأميركية المستقبلية، كما حددتها المراجعة الاستراتيجية خلال ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، تقوم على عسكرة منطقة جنوب شرق آسيا وإنشاء الأحلاف المرتبطة بواشنطن. فالمطلوب أميركياً، بدعم أوروبي ـ أطلسي، هو تطويق الصين ومحاصرتها في عقر دارها.
كيف سترد الصين على ما تصفه بـ”استفزازات” الأساطيل الأميركية ـ البريطانية ـ الألمانية… وغيرها في المياه التي تعتبرها المدى الحيوي لسيادتها؟
التعامل الصيني يلتزم أقصى درجات السياسة والديبلوماسية تجاه ما يجري في جنوب شرق آسيا. ولكن بكين تراقب بدقة تطورات المعركة في أوكرانيا، لأنها ستترك انعكاسات جذرية على السياسات العالمية. ونحن نعتقد بأنها تراهن على نجاح موسكو بفرض شروطها على أوكرانيا (ومن خلفها الحلف الأطلسي). ولن تتردد في تقديم الدعم إذا ما استدعت الحاجة، لأن نجاح الحلف الأطلسي في احتواء روسيا يعني أن ساحة المواجهة التالية ستكون الصين نفسها!
إن بكين ليست في وارد قبول الانتصار الأطلسي. فمعركة أوكرانيا بالنسبة إليها هي أيضاً معركتها… وإن بطريقة غير مباشرة.