الشيخوخة، ماهي سوى جزء طبيعي من دورة الحياة، لكننا اليوم محاطون بهوسٍ شديدٍ بتجنب علاماتها، لإخفائها تُصرفُ الأموال الطائلة ، وكأنها عيب نرتكبه أو عار علينا إخفاؤه، علماً أن التصالح مع الذات ومع دورة الحياة هو من اهم عوامل السعادة والسلام الداخلي، غير أن وسائل الإعلام اليوم تدفع بمخلوق في غاية الروعة إلى أن يتحوّل إلى جارية أو موديل على غلاف المجلات، ومخلوقٍ آخر ليلهث وراء قشرة تلك الجارية، غير مدركٍ بأن تحت هذه القشرة تقبع أنثى بقيمة الوجود وجماله، قد تموت ولا تدرك ذاتها
هل سمعنا يوماً من يتحدث عن شيخوخة العقل والروح؟ الفكر والنفس؟ هناك أخاديد ترتسم في مكانٍ عميقٍ في النفس، جراح تخلّفها حياة غير متوازنة وغير مدركة لجوهرها. يا لجمال الخطوط القائمة على طرف العين! تلك التي تحكي عن شخصيةٍ تهوى الابتسام رغم الآلام، فتترك قصصاً تغريك لسبر أغوارها علّك تعرف الفرح الذي كوّنها، او ربما الحزن الذي زاوج الأمل فخلقا معاً دافعاً لبدايةٍ جديدة وقصةٍ مثيرة للدهشة. وكم هو مؤلم ذلك الأخدود الطاعن في الروح، كجرحٍ عميقٍ لا تشفه الأقنعة ولا أحدث صيحات الموضة، ذلك الذي يحفر فينا عندما نؤثر الزواج على الوحدة، من آخَرٍ يدخلنا الغربة والعزلة من أقسى أبوابها. أو ربما عندما نخلد إلى الفراش ليلاً مثقلين بأحلامٍ غير محققة، تراكمت عبر زمنٍ قاهر، سلّمنا فيه الخوف زمام فشلنا، وركدنا كالماء الآسن في صندوقٍ أقفل زوراً على احتمالات الجمال. وهناك في الفراغ الساكن بين قرارٍ مصيري اتخذناه، وبكل جبنٍ ركنّاه في زاويةٍ مقفرة، تلفه عتمة التردد في ولوج النجاح والسعادة. أما عن الصداقة، تلك العلاقة الإنسانية التي يمكن لها أن ترفعنا إلى سماءٍ جديدة، وترفع عنا الهم والكرب في أحلك الأوقات، فماذا تفعل بنا إن خلقناها وهماً، وألبسناها لأشخاصٍ لم يدخلوا حياتنا سوى لتدميرها، او لتفريغ عقدهم النفسية، أو ربما لمصالح أخرى، تضعنا في أقل قيمةٍ إنسانية حقيقية! أما عن الخصام مع الماضي واستعدائه، لنا جميعاً محطات فيه، عندما نصرّ على استعداء ذاتنا، من خلال استعداء الماضي الذي أنتج تلك الذات، بإعلان الحرب على الضحية نفسها، ذاتنا التي لم نكتفي بما حدث لها عفواً خلال تجربة الحياة المتنوعة، وإنما استلذينا بمعاقبتها كما تعاقب المغتصبة في المجتمعات الجائرة. يا لهذه الروح التي ترزح تحت وطأة الموت ونحن أحياء، يا لبؤس هذه الحياة التي منحتنا فرصة لا تثمن، لتحقيق الخير والحق والجمال، وقيدناها بظلم وجردناها من كل معنى وقيمة.
أما عن العقل، فهذا مبحث لا ينفصل ولا يبتعد عن شيخوخة الروح، ذلك أن كل خليةٍ في كياننا ترتبط بالأخرى وتفضي إليها. أيّ تجاعيد نحدثها عندما نبتعد عن إعمال العقل وتحريكه، وننسى ان الحركة وجود، لنتركه فريسة للسكون والعدم. ذلك المعمل الخلاق لكافة المعتقدات والمخاوف والمحفزات والمثبطات، يستحق منا بعض الاهتمام والانتباه، كي لا نخسر واحدة من اعظم عطايا الطبيعة، ونخسر معها فضائلنا التي تحتاج إلى بيئة ديناميكية، لا تتوقف عن البحث والتقصي.
ماذا جرى لذلك الطفل الشغوف الذي سكننا يوماً؟ لا مبرر لشنقه مقابل رشدٍ مزيف، رشدٍ أسسته أمراض المجتمع، بدل أن يؤسسه توازن نفسي. تلك الشيخوخة التي تستحق أن نحاربها بكل ما أوتينا من قوة، لنحيا بأقصى ما بوسعنا، ونقابل الموت بأجمل النتائج، نحن نستحق أجمل ما في الحياة، ولو كان حزناً نستحقه نبيلاً، ولو كان حباً نستحقه عميقاً، ولو كان نجاحاً نستحقه راسخاً، ونستحق ان نخلق قيمة لحياتنا ونضفي عليها ألواننا الخاصة. ونحن نملك القدرة ولا تنقصنا الشجاعة لنفعّل تلك القدرة. الحياة تحب من يعشقها وتحب الشجاع المغامر، تحب حراس الحقيقة والمحاربين لنصرتها، تحب من يجتهد ليزيدها جمالاً، ما الذي يمنعنا أن نحيا، بتجاعيد ترسو على وجوهنا لتحكي قصص بطولاتنا وأحلامنا ومخاوفنا، بشعرٍ فضي اللون يحب انعكاس الشمس ويعتصر الحياة من نورها، وفي نفس الوقت نحافظ على حيوية جوهرنا وشغفه.