تحظى قضية الشمال السوري واحتمال قيام تركيا بعملية عسكرية، بأهمية خاصة في هذه المرحلة التي يحرص فيها الرئيس الروسي على إنهاء الملف كجزء من الاستراتيجيا التي يراها لا تنفصل عما يجري في الحرب الأوكرانية. فالقواعد الأميركية تعرضت خلال الأيام الماضية إلى هجمات متكررة بالصواريخ، كما تمكن أهالي ريف دير الزور الشمالي من تحرير أحد الآبار النفطية بعدما طردوا “قسد” منه. وفي المقابل فإن التصريحات تقول بوجود اتصالات استخباراتية بين تركيا وسوريا ربما تتوج بلقاء من درجة رفيعة في قمة شنغهاي التي ستقام في أوزبكستان. رغم كل ذلك إلا أنه من المبكر القول بالوصول لحل لهذا الموضوع لأن العقبات كبيرة بين التقارب السوري التركي.
منذ بداية الحرب، واليد التركية حاضرة بقوة في سوريا من خلال دعمها للجماعات المسلحة وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة” بالإضافة لعملياتها العسكرية الثلاث بحجة محاربة “قسد” ولكن في بداية هذا الشهر خرج وزير خارجية تركيا “شاويش أوغلو” بتصريحات عن تقارب سوري-تركي أثار الجدل بسبب القضايا الشائكة التي لابد من تفكيكها قبل حصول هذا التقارب. فسوريا لا يمكن أن تتنازل عن تحرير كافة الأراضي التي تسيطر عليها قسد أو القوات الأميركية أو الجماعات المسلحة التي تدعمها تركيا، وبالمقابل فإن وجود سلطة الدولة في هذه المناطق، يعني حصول تركيا على ضمانات فيما يخص “قسد” وطموحاتها في الإدارة الذاتية لأن سوريا لن تقبل بأي وضع يمس السيادة الوطنية على تلك المناطق. فإذا كانت الأهداف التركية مقتصرة على ضمان الأمن على الحدود، فإن الجيش السوري وسيادة الدولة السورية على أراضيها كفيل بتحقيق هذا المطلب. أما إذا كانت المطامح التركية ذاهبة أبعد من ذلك كما عودتنا أنقرا تاريخياً في سلوكها مع سوريا منذ سلخ كيليكيا واسكندرون، فإن احتمال حصول اللقاء السوري التركي يبقى ضعيفاً أو مستحيلاً. المطالب السورية واضحة ومنها فتح طريق “إم4” واستعادة ادلب، لكن تركيا تريد الاحتفاظ ببعض الجيوب المتقدمة وهو أمر صعب على الحكومة السورية تقبله.
لم تستفد “قسد” من الظروف للعودة إلى حضن الدولة السورية، رغم معرفتها بأن هذا الخيار هو الوحيد القادر على حماية السوريين الأكراد وضمان أمنهم واستقرارهم وحل مشاكلهم بالحوار مع مؤسسات الدولة التي ينتمون إليها. فالمجموعات الكردية الطامحة للانفصال وتكريس الحكم الذاتي، لم تنجح في كسب ودّ السوريين في تلك المناطق سواء كانوا أكرادًا أم غيرهم. بل بدأت الأصوات تعلو من داخل تلك المناطق وتتهم “قسد” بتوريط السكان بمواجهات كان بالإمكان الاستغناء عنها لو امتلكت “قسد” البعد الاستراتيجي في النظر إلى الأمور.
“قسد” أثبتت أن سيطرتها على المنطقة الشمالية كارثية بكافة المقاييس، فقد همشت السكان من ذوي الأصول غير الكردية كما أنها مدانة بالعديد من الانتهاكات الحقوقية بحق المدنيين (الأكراد وغير الأكراد) في مناطقها، وعلاوة على ذلك فقد وظفت نفسها حارساً لأمريكا من أجل سرقة النفط، فأساءت إلى الدولة السورية فضلاً عن عداوتها مع تركيا، وبقيت تراهن على الأميركي المعروف بترك حلفائه في أية لحظة تنتفي فيها مصالحه.
خسرت “قسد” كافة الأطراف التي كان من الممكن أن تلجأ إليها بعد تخلي واشنطن عن المنطقة بفعل التوازنات الدولية وارتفاع وتيرة المقاومة ضد الوجود الأميركي. والواضح أن اللعب على شفير الهاوية الذي تنتهجه “قسد” لن يجدي نفعاً لأن وقت الحسم حان، وهي بكل الأحوال ستخسر قائمة الأهداف التي تسعى إليها مهما كانت صيغة الحل القادم.
خطر داعش لا يزال يلوح في الأفق حسب بعض التقارير ، فعلى الرغم من انخفاض أعداد التنظيم إلا أنه لا يزال موجوداً في الشمال السوري على شكل قيادات من المستوى المتوسط فما فوق تعطي الأوامر لخلايا صغيرة لتأمين الدعم المادي وتجنيد المتعاطفين معه لإبقاء التنظيم حياً ولو على مستوى ضيق، مثلما حدث في بداية العام عندما هرب بضعة آلاف مقاتل من داعش من سجون تابعة لـ”قسد”، ومن المحتمل أن يستغل التنظيم الوضع الحالي لمصلحته لينهض مرة أخرى. بل من الممكن أن يحصل اتفاق ضمني بين “قسد” وتنظيم داعش يقضي بإعطاء داعش إمكانية التحرك لإيصال رسالة مفادها أن غياب قسد يعني حضور داعش!
في حال صعود داعش، أو بالأحرى صدور الأمر بصعودها، ستؤمن الجماعات المتشددة الأسباب لتدخل الولايات المتحدة التي أدركت أنها ليست بحاجة دعم قسد بعد الآن خصوصاً أنها قادرة على سرقة ما تريد من النفط السوري وتهريبه لقواعد في الدول القريبة، يوجد الآن ما يقارب 900 جندي أمريكي فقط ولكن يمكنها دعمهم بقوات إضافية إذا اضطرت للتخلي عن قسد من أجل عدم الاصطدام مع تركيا.
لاشك أن الرفض الروسي الإيراني للعملية العسكرية التركية داخل الأراضي السورية، يكبح من جماحها ويدفع باتجاه زيادة الاتصالات بين السوريين والأتراك من أجل الوصول إلى اتفاق متوازن لا تتنازل فيه سوريا عن مطالبها السيادية ويضمن لتركيا هواجسها الأمنية.