السلطة ومصدرها

شحاده الغاوي

Share

الى القوميين الاجتماعيين المهتمين بمسائل السلطات السياسية ومصدر هذه السلطات وآلية انبثاقها وممارستها، هناك علوم ومباديء علمية يجب أن تتوفر لدينا قبل الخوض في هذه الشؤون الاختصاصية. لقد عمد الكثيرون من غير أصحاب المعرفة والاختصاص الى الحكم في هذه الشؤون عشوائياً وبتسرّع، فأتت أحكامهم متناقضة مع أحكام الكثيرين غيرهم، فدبت الفوضى ووقع الالتباس. بل ظهرت بعض “المناوشات” غير الرصينة والجدالات غير المفيدة حول قضايا يجب أن تكون واضحة ومحسومة. حتى أن أحد الرفقاء المؤمنين المخلصين ذهبت به ردّة فعله الى الخروج عن أصول الحوار الذي يميز القوميين الاجتماعيين، فلقّب معارضيه “بحديثي النعمة يتحفوننا بنظرياتهم”، وقال أنه “يجب إسكات اقلامهم بالحجة والبرهان أن لم يكن باللي أو أي حركة اخرى”!!

إني إذ أقدِّم هذه المطالعة هنا فلأنني سبق لي وأشبعت هذا الموضوع درساً وبحثاً ومقارنةً ولي فيه دراسة مفصلة مسندة الى مراجع يمكن الوصول اليها، وهي منشورة في مجلة الفينيق الالكترونية. كما تطرقت إليه بشكل موسع في الصفحات من 307 الى 321 من الفصل الرابع من كتابي حول تاريخ استشهاد سعاده. ومع ذلك فإن دراستي ليست كاملة ولا أدّعي الاستذة في هذا الموضوع وما قدمته هو موضع مناقشة رصينة وهادئة لاصحاب المعرفة والاختصاص. وها إني ألخصها هنا كثيراً في هذه المطالعة القصيرة.

أولاً: إن مصدر السلطة هو غير السلطة نفسها، وما ينطبق على هذه لا ينطبق على تلك. والديموقراطية لا تعني أبداً أن السلطة هي متاحة للجميع دون شروط  بل تعني أن مصدر السلطة هو الشعب كله وليس أية فئة مختارة منه. هذا هو معنى الديموقراطية بدون أدنى تحفّظ. وسعاده قد أكد هذا المعنى عدة مرات وفي عدة أماكن، في كتاب نشوء الامم وفي غيره. وما قاله سعاده عن ضرورة إبقاء الفرق بين السياسة والاجتماع واضحاً قد أساء عديد منا قراءته وفهمه وقالوا إن الشعب، كونه الاجتماع، لا يجب أن ينتخب قيادته العليا كونها السياسة، وهذا معناه أن الشعب ليس هو مصدر السلطة. وهذه قراءة خاطئة وتتعارض مع مبدأ الديموقراطية الذي قال به سعاده وأكد عليه. إن القراءة الصحيحة لقول سعاده عن ضرورة فصل الاجتماع عن السياسة هي ما شرحه هو نفسه في المكان نفسه عندما كان ينتقد تدخّل جميع أفراد الشعب في إدارة الدولة في أثينا الاغريقية في عهد بركلس خمسمئة سنة قبل الميلاد، قال: “إن العقل السوري العملي لم يكن يميل الى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية. ولذلك فهو قد اكتفى من التجربة الاغريقية للحكم الشعبي، بواسطة الشعب أجمع، بالمشاهدة. إنه لخيال بديع في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كل فرد من افراد المدينة المعترف بهم شريكاً فعلياً في إدارة الدولة. إن المدينة السورية ظلت محافظة على الفرق بين السياسة والاجتماع واضحاً، وهذا الفرق هو ما مكّن الدولة من إطراد تقدمها”.(ن أ الفصل السادس). فسعاده إذاً كان ينتقد كون كل فرد شريكاً في إدارة الدولة، ولم يكن ينتقد أو ينفي حق كل فرد في انتخاب هذه الادارة. إن الاشتراك في إدارة الدولة هو غير الاشتراك في إنتخاب هذه الادارة. إن السلطة شيء ومصدرها شيء آخر.

إن سعاده هو رائد الديموقراطية، هو أبوها وأمها وله فيها وفي معناها فصلاً كاملاً من كتابه العلمي نشوء الامم هو الفصل السادس، “نشوء الدولة وتطورها”، وخاصة تحت عنوان “الدولة الديموقراطية القومية”. وسعاده أكد في هذا الكتاب العلمي الاختصاصي أن القومية هي ديموقراطية والديموقراطية هي قومية وقال أن القومية والديموقراطية هما مبدآن متجانسان.

   ثانياً: إن سعاده قد طبّق مبدأ الديموقراطية على الحزب ونظامه بشكل كامل. إن سلطة الزعيم الفردية المطلقة، أي دكتاتوريته، كانت حائزة على رضي وقبول الشعب كله، أي أعضاء الحزب كلهم، وهي بذلك كانت دكتاتورية ديموقراطية وليست دكتاتورية طاغية. وإن تعبير الدكتاتورية الديموقراطية أو الدكتاتورية العادلة الحائزة على ثقة الشعب هي تعبير جديد لسعاده استعمله ليشرح للشعب الفرق بين الدكتاتورية والطغيان، حيث كان الشعب يخلط في هذه المفاهيم على غير هدى (أنظر مقالتي تشبيه ومرشحو الديموقراطية). وبما أن سعاده كان ديموقراطياً بامتياز، ولأن القومية لا يمكن أن تكون إلا ديموقراطية، فقد أشترط على جميع الاعضاء وطلب منهم، من أجل قبولهم بالحزب، أن يعلنوا شفهياً وخطياً تأييدهم لسلطته الفردية المطلقة، وأدخل هذا الاعلان في نص القسم الحزبي كما في مقدمة الدستور. وهكذا فإن تأييد الاعضاء كلهم كان أساساً ديموقراطياً قامت عليه سلطة الزعيم الفردية المطلقة، وهكذا تكون سلطته الفردية هي سلطة ديموقراطية مئة بالمئة.

ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن السلطة الفردية للزعيم، كما كونه هو مصدراً مؤقتاً للسلطات، هما إمتياز حصري له وحده لا ينتقل الى أي فرد غيره بعد غيابه. وهذا أمر أملته ضرورة قبضه وحده على ناصية الحزب وعقيدته وغايته في مرحلة التأسيس. فالنظام الفردي في الحزب ليس نظاماً دائماً بل مؤقتاً ينتهي مع إنتهاء حياة سعادة المادية، وقد انتهى في 8 تموز 1949. وهذا واضح في المواد الانتقالية 11 و12 و13 من الدستور، وهذا أيضاً ما أوضحه سعاده وما قاله بشكل صريح في أكثر من رسالة واحدة من رسائله، وفي إحداها يقول أن الحكم الفردي هو امتياز لصاحب الدعوة وحده وإن الاتجاه الديموقراطي للحزب صريح لا يرفضه عقل صحيح.

ثالثاً: نعم أن السلطة يجب أن تكون مؤلفة حصرياً من مؤهلين جديرين أصحاب كفاءة وقدرة وامكانية، أي أصحاب مؤهلات علمية وعقائدية وأخلاقية عالية، أي أمناء متوفرة فيهم الشروط الصارمة المنصوص عليها في المرسوم الدستوري عدد سبعة، ولا يجوز مساواتهم في الحق في تولّي السلطة مع المبتدئين غير المتوفرة فيهم شروط الامانة. الزعيم قال لعبدالله سعاده، ولم يكن أميناً بعد، أنت لا يحق لك أن تكون عضواً في المجلس الأعلى لانك لست أميناً فكيف ترأسه؟! (عبدالله سعاده في أوراق قومية). لكن يجب الانتباه هنا جيداً إن هذه الحصرية تنطبق على أصحاب السلطة وليس على مصدرها. نعم إن نظامنا مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف ولكن هذه التراتبية تنطبق على رجال السلطة ونسائها وليس على مصدر السلطة الذي هو الشعب كله دون تراتبية. دون ذلك نكون في نظام ارسطوقراطي وليس ديموقراطياً.

لا أحد من القوميين الاجتماعيين اليوم، لا أحد إطلاقاً، يطلب أن تكون السلطة متاحة للجميع دون شروط، أي يطلب مساواة الكبير مع الصغير في الحق في السلطة، أوالعتيق صاحب الادراك العالي للعقيدة والنظام مع المبتديء قليل الوعي والثقافة العقائدية. وإن الذين يرفضون مبدأ أن القوميين الاجتماعيين هم مصدر السلطة بحجة أنهم متفاوتوا الامكانيات وغير متساوين في المؤهلات ولا تجوز مساواة الكبير مع الصغير، يفترضون أن الانتخابات العامة ستوصل الى السلطة من هم غير مؤهلين لها. إنهم بذلك كمن يفترض خصماً وهمياً متخيَلاً غير موجود ويخاف منه.

إن ممارسة الديموقراطية وإعطاء القوميين الاجتماعيين حقهم المقدس بأن يكونوا هم مصدراً للسلطة وينتخبوا المجلس الاعلى والرئيس مباشرةً، ليس هو ما يؤدي الى وصول غير المؤهلين الى قيادة الحزب، بل إن التهاون والإخلال بشروط منح رتبة الامانة هو الذي يؤدي الى ذلك.

إن حرمان أعضاء الحزب من حقهم في أن يكونوا هم مصدر السلطة، وحصر هذا الحق بالامناء فقط، هو أرسطوقراطية مخالفة لنظام الحزب الديموقراطي الذي وضعه سعاده مخالفة فاضحة. الارسطوقراطية هي سمة أنظمة القرون الوسطى، ولا يجوز في عصر النهضة القومية أن نتعلّق بأذيالها. الارسطوقراطية هي نظام يحصر كل من السلطة ومصدرها بفئة مختارة من الشعب، نبلاء أو عائلة أو سلالة أو طائفة دينية، أو غيرها، ويعتبر أنها وحدها مؤهلة للحكم وممارسة السلطة ومنها وحدها تنبثق السلطة. أما نظامنا الجديد فإنه إذ يحصر الحق في ممارسة السلطة بالامناء نخبة المؤهلين لها علماً وأخلاقاً، فلا يحصر مصدر السلطة بهم بل يعطيه للشعب كله عملاً بالديموقراطية القومية.

لا مبرر إطلاقاً للخوف من وصول غير المؤهلين الى السلطة عندما يشترك القوميون جميعهم بانتخاب سلطتهم التشريعية ورئيسهم، ذلك أن المؤهلين الامناء هم وحدهم من يحق لهم الترشح والوصول. إن الامناء هم ليُنتخَبوا وحدهم وليس ليَنتَخِبوا وحدهم. إن الانتخاب العام مهما كانت نتيجته سيوصل أميناً، أي مؤهلاً، الى السلطة سواء كانت أكثرية الاعضاء مبتدئين غير مؤهلين أو كانت أكثريتهم واعين مدركين خبيرين. وإن الناجح في الانتخابات وغير الناجح أيضاً سيتقاسمان اصوات المؤهلين وغير المؤهلين، وليس صحيحاً أن الناجح سينجح بأصوات غير المؤهلين الذين انتخبوه.

إن سعاده نفسه قد طلب من جميع القوميين، كبيرهم وصغيرهم، المبتدئين منهم والعتاق الخبراء، أن يؤيدوا سلطته ويعلنوا هذا التأييد جهاراً في القسم ويوقعوا عليه. إن سعاده نفسه لم يميّز في طلبه هذا بين صغير وكبير فلماذا نميِّز نحن!

إن الحزب قد تأسس بتعاقد الاعضاء إفرادياً مع سعاده ولم يكن التعاقد معه يختلف بين كبير وصغير. وإن دستور سعاده ينص في مادته الثامنة على أنه لجميع الاعضاء الحق نفسه في إبداء الرأي بالصغيرة والكبيرة ولم يقل إن رأي الصغير فاسد ومرفوض ورأي الكبير جيد ومقبول، أو أن رأي الصغير هو رأي واحد ورأي الكبير هو رأيان، فلماذا نميّز نحن!

إن الانتخاب هو إبداء رأي ولكل عضو أن يبدي رأيه في الكبيرة والصغيرة ولا يحق لاحد أن ينوب عن سواه بإبداء رأيه. يقول سعاده في خطاب سانتياغو بأن “الديموقراطية التي يفتخر بها العالم الآن هي من صنع سوري أيضاً، لأن أول فكرة ديموقراطية تعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية”. إنه لخطأ كبير أن نقول بأن الامناء يعبرون عن رأي القوميين وينتخبوا بالنيابة عنهم. إن الامناء بما يحملون من مؤهلات يعبِّرون عن الإرادة العامة للقوميين وليس عن رأي القوميين الخاص. إن التعبير عن الرأي الفردي الخاص هو غير التعبير عن الارادة العامة. الرأي غير الارادة وسعاده قد أشبع هذا الموضوع درساً في نشوء الامم وأوضح كيف أن الارادة هي بنت المصلحة ولا إرادة من دون مصلحة ورائها. إن الارادة العامة للقوميين هي واحدة وراءها مصلحة واحدة هي تحديداً مصلحة أنتصار العقيدة وتحقيق غاية الحزب. أما آراء الافراد القوميين الخاصة في من يفضل كل واحد منهم لتولّي السلطته التشريعية ورئيس الحزب، فشيء مختلف تماماً.

رابعاً: إن نظامنا هو ديموقراطي تعبيري بديل عن الديموقراطية التمثيلية، والديموقراطية التعبيرية هي “الانقلاب الجديد الذي تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية” (نسر الزعامة ووحل توكومان)، “وهي دستورنا في سورية وهي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستسير البشرية بموجبه فيما بعد” (خطاب سانتياغو). ولفهم الديموقراطية التعبيرية يجب أولاً فهم معنى الديموقراطية نفسها وفهم الفرق بينها وبين الارسطوقراطية، ثم فهم معنى الديموقراطية التمثيلية وفهم سبب رفضها، وأخيراً فهم معنى “التعبير بدلاً من التمثيل” أي فهم الفرق بين التعبير والتمثيل. إن التعبير الذي قال به سعادة هو التعبير عن الارادة العامة وليس التعبير عن آراء القوميين المختلفة. إن هذا كان موضوع دراسة نشرتها الفينيق على عدة حلقات يمكن الرجوع اليها هناك إبتداءً من العدد التاسع ولا يتسع لها هذا المقال السريع. لكن يجب التنبيه هنا أن الانتخابات لا تعني بالضرورة ديموقراطية تمثيلية ولا يمكن المطابقة بينهما كما هو عالق باذهان البعض. إن الانتخابات العامة يمكن أن تكون تمثيلية ويمكن أن لا تكون، ويجب معرفة متى تكون ومتى لا تكون، وهذا مشروح في دراستنا المشار إليها. ويجب التنبيه أيضاً أن الدكتاتورية لا تعني ديموقراطية تعبيرية ولا يمكن المطابقة بينهما كما هو وارد على اقلام البعض الآخر. إن ديموقراطيتنا هي تعبيرية لأنها تعطي السلطة للمؤهلين الذين بفضل مؤهلاتهم هم قادرون على التعبير عن الارادة العامة أي تحقيقها وفعل شيء في سبيلها. ولذلك قال سعاده عنها أنها دستورنا الذي نعمل به لنجعل البلاد كما تريد الأمةوقال أن التعبير غرضه الانشاء وإدراك شيء جديد، أما التمثيل فهو أهون من التعبير وهو شيء جامد يتعلّق بما قد حصل.    

يجب أن يتوفر شرط واحد في أصحاب السلطة في الديموقراطية التمثيلية هو انتخابهم بالاكثرية بغض النظر عن تمتعهم بمؤهلات تمكنهم من الفعل والانجاز وإنشاء شيء جديد. أما أصحاب السلطة في الديموقراطية التعبيرية فيجب ان يتوفر فيهم شرطان إثنان هما الانتخاب بالاكثرية زائد تمتعهم بمؤهلات عالية. فالانتخاب بالاكثرية ليس شيئاً عاطلاً أبداً ولا يعنى بالضرورة ديموقراطية تمثيلية (راجع مجلة الفينيق العدد التاسع).

الانتخابات تكون تمثيلية عندما تكون الهيئة الناخبة منقسمة تتنازعها مصالح فئوية مختلفة فتأتي الانتخابات بسلطة تمثل هذه الهيئة وتمثل مصالحها المختلفة، أي تكون السلطة أيضاً منقسمة وعاجزة عن التعبير عن إرادة عامة واحدة لتحقيق مصلحة عامة واحدة. أما في المجتمع القومي داخل الحزب فلا يوجد مصالح مختلفة لفئات مختلفة بل يوجد مصلحة واحدة هي مصلحة تحقيق غاية الحزب، وبالتالي إرادة عامة واحدة لا يستطيع التعبير عنها، أي تحقيقها، إلا المؤهلون. المجتمع القومي داخل الحزب هو “الامة مصغّرة” والأمة هي “وحدة مصالح ووحدة مصير” لا يوجد فيها مصالح مختلفة لفئات مختلفة. وهكذا فالانتخابات العامة في المجتمع القومي داخل الحزب هي ديموقراطية تعبيرية لانها تولِّد سلطة مؤلفة من أمناء مؤهلين يستطيعون التعبير عن الارادة العامة الواحدة التي تولِّدها المصلحة الواحدة، وتحقيقها.

  

 

0
0

0 Comment

ايلي عون 28 أبريل، 2020 - 7:14 م

مقالة علمية قيمة. الرفيق شحاده الغاوي منهجي في مقارباته ودوما ما نراه يسعى للتحديد والتمييز وهذا ما يسهل على القارئ معرفة القصد. تحيتي.

القومية والديموقراطية مبدآن متجانسان – الفينيق 28 يونيو، 2020 - 12:12 م

[…] الاجتماعي الجديد. ثم عادت ونشرت له مقالة تحت عنوان “السلطة ومصدرها” في عددها رقم 38، نيسان 2020. تلكما السلسلة والمقالة […]

Post Comment