ثمّة كرة متدحرجة من العنف الموجه ضد المهاجرين في الغرب تلّف العالم من عاصمة إلى أخرى. ما حدث في نيوزيلندا هو أحد فصولها ولكنه لن يكون الأخير. تركّز السردية الشعبية على إن عنف البيض ضد المهاجرين سببه كثرة هؤلاء في السنوات الأخيرة ما يهدد بتغيير “لون” الغرب وثقافته بل وديانته. ما تغفله هذه السردية هو أسباب هذه الهجرة.
هناك نهران عظيمان من المهاجرين الفقراء يتجهان من الجنوب إلى الشمال. الأول من أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة والثاني من أفريقيا إلى أوروبا. ومؤخرا، ظهر نهر ثالث من الشام والعراق نتيجة الحروب والغزو. ينبع هذان النهران من أسباب اقتصادية وسياسية عنوانها الكبير استنفاذ الموارد، Resource depletion في دول الجنوب.
تَدْخلُ الارادات الاجنبية الكبرى مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ويمكن إضافة الصين الآن، إلى دول العالم الثالث من بوابات شتّى أبرزها الحروب الأهلية المُفْتَعَلة والاحتلال، أو القروض طويلة الأمد أو عقود تأجير الأراضي الزراعية. كل هذا مرتهن بوجود أدوات داخلية فاسدة وحكّام مطيعين يقمعون شعوبهم فيزيدونهم فقرًا ويأسًا وطلبا للرحيل.
تطحن هذه الإرادات الأجنبية الموارد كما يفعل الجراد. فهي إذا دخلت بلدا، حلقت غاباته بالكامل أو استنفذت مناجمه ونفطه تاركة وراءها أراض ملوثة بالسموم الكيماوية. ولعل أسوأ الممارسات الدولية هي “إيجار الأراضي الزراعية بعقود طويلة الامد.” الهدف منها حصول البلد المُستأجِر على الموارد الغذائية بأرخص الأثمان. أما نتائجه على البلد المؤجِّر حسب تقرير نشره مركز أوكلاند الأميركي، ناهيك عن دراسات عديدة تؤكد النتائج ذاتها، فيمكن تلخيصها بهذه الفقرة:
“يتم ترحيل آلاف الإثيوبيين من أماكن إقامتهم إلى أماكن جديدة – منهم من فرّ بالفعل إلى الدول المجاورة – بعد أن بيعت أراضيهم لمستثمرين أجانب دون موافقتهم … إن تأجير إثيوبيا 600 ألف هكتار من الأرض الزراعية الممتازة لشركات هندية، قد أدى إلى تهديدات وعمليات قمع واعتقالات وحالات اغتصاب وتدمير للبيئة وسجن للصحافيين والمعارضين السياسيين.”
في أميركا اللاتينية، يخلّف ما تقوم به الشركات العملاقة من نهب لموارد تلك البلاد، وعنف تقوم به الديكتاتوريات اليمينية الحاكمة بدعم من الولايات المتحدة لحماية تلك الشركات، آثارًا مدمرة للاقتصادات المحلية تسبب إفقار الملايين. آخر مثل على ما نقول هو انتخاب رئيس يميني متطرف في البرازيل، بدعم من الولايات المتحدة، وإسرائيل، كان في طليعة قرارته فتح غابات الأمازون أمام الشركات العملاقة الأميركية او متعددة الجنسيات، ونقل سفارة بلاده في فلسطين المحتلة إلى مدينة القدس.
أما لماذا يتجه هذان النهران العظيمان من المهاجرين واللاجئين إلى البلدان التي دمّرت بلادهم، فالسبب بسيط: إنه الجوع. جوع المهاجرين إلى الخبز، وجوع الدول الغربية إلى يد عاملة رخيصة. إن وسائل الهيمنة الثقافية للبلدان الغربية، تنشر فكرة “الجنة الديموقراطية” و”الحلم الأميركي” في وسائل إعلامها العملاقة، كمغناطيس جاذب للمهاجرين. ولكن هذه اليوتوبيا تنطوي على الكثير من الأحقاد والمخاوف لدى فئات كبيرة من الشعب أهمها الخوف من الآخر والخوف من التغيير.
أحد أسباب الخوف من الآخر هو عقدة التفوق، سواء أكان مردها دينيًا أم عرقيًا أم سياسيًا أم اقتصاديا. وأسوأ أنواع هذا الخوف هو الخوف المنبثق من استعلاء دينيي أو عنصري. في اللحظة السياسية المناسبة، ومع السياسيين الانتهازيين، تُتَرَجمُ الأحقاد والمخاوف بحملات إعلامية حاقدة، وتشريعات تمييزية، تعطي غطاء من التعاطف مع المجرمين. إن توجيه دونالد ترامب غضب ملايين الأميركيين البيض الذين خسروا وظائفهم نتيجة كارثة 2008 المالية، ونتيجة نقل الشركات الكبرى لمصانعها إلى دول تُستعبدُ اليد العاملة فيها، توجيه هذا الغضب ضد المهاجرين الذين هربوا من تلك العبودية، لهو أفضل دليل على ما نقول.
وليست عقدة التفوق موجهة ضد المهاجرين وحدهم وإن تكن هي الظاهرة الأكثر حضورا اليوم. فبحث سريع يكشف عن ستين حادثة عنف من حرق وإطلاق نار أو رمي قنابل ضد كنائس تابعة لأمريكيين من أصول أفريقية، أكثر من نصفها حدث في تسعينيات القرن العشرين. أما في أوروبا، فالعنف السياسي قديم جدا. ومع أن العقود القليلة الماضية شهدت تصاعدا في عمليات قام بها فلسطينيون أو حركات إسلامية متطرفة، إلا أن أكثر الحوادث دمارا وقتلا وكلفة مالية كانت من تنفيذ الجيش الأحمر الأيرلندي أو المافيات أو حركات انفصالية أوروبية أخرى. هذه الحركات يمكن تصنيفها كرد فعل من أقليات على أكثرية متحكمة.
إن دوامة العنف هذه تبدأ من تدمير المجتمعات وتشريد سكانها وتنتهي بالانتقام من ضحايا هذا التدمير. دوامة العنف هذه هي “كعب آخيل” الدول الغربية.
كندا، 2019-03-19