الديمقراطية التعبيرية – رؤوس أقلام- د. فؤاد جورج

د فؤاد جورج

Share

د فؤاد جورج

 

من ميزات النظام القومي الاجتماعي أنّ الديمقراطية المعتمدة هي الديمقراطيّة التعبيريّة التي تقوم في أساسها على تأمين المصلحة الاجتماعيّة، والتي عجزت الديمقراطيّة التمثيليّة عن تأمينها كونها أنتجت وتنتج ممثلين غالبًا ما يجهدون لتأمين منافعهم الخاصّة.

ويأتي معنى الديمقراطية التمثيليّة الشائعة مرتبطًا بآراء الأكثريّة العدديّة عبر التصويت. فهذه تملي على المجموع التوجّهات الحياتيّة أيًّا كان مضمونها وبعدها، بغضّ النظر عن صوابيّة الرأي الأكثري أو عدمه، وعن مدى تعبيره عن المصلحة القوميّة العليا الحقيقيّة.

ولقد شهدنا الكثير من النماذج والأمثلة المعتمدة على الديمقراطية التمثيليّة التي تتعارض مع حقيقة المصلحة العامّة بحيث تُخْضِع هذه المصلحة لإرادة أقليّة عدديّة تملك وسائل ماديّة أو نفوذًا موروثًا أو غير موروث أو وسائل إعلاميّة ضاغطة، فتتسلّح بها كلها وتستغلّها من أجل توجيه “الرأي العام” بما يتوافق مع مصالحها الخاصّة. وكثيرًا ما يكون “الرأي العام” رافعةً لهذه الأقليّة التي تستغلّه بسبب جهله لحقيقة المصلحة العامّة – مصلحته. ومن أجل ذلك كان توصيف الأديب سعيد تقيّ الدين للرأي العام بـ”البغل”.  وتأتي عملية الإنتخاب والتصويت بشكل “تمثيلية” بالمعنى المسرحي لا بالمعنى الديمقراطي، في كثير من الأحيان.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه حين يرتقي “الرأي العام” إلى مستوى الوعي القومي، يغدو التمثيل تعبيرًا، بمعنى أنّ عمليّة الاختيار بالاقتراع تكون على مستوى التعبير عن مصلحة الشعب العليا. والخلل التمثيليّ ناتج عن جهل “الرأي العام” مصلحته وعن عدم وجود أنظمة تساعد على بلوغ المصلحة الحقيقية وتصون مصلحة الأمة والدولة، وتحكّم فئة نافذة بمصيره. والأنظمة البرلمانية هي مثال عليها ولا يرتجى الكثير منها.

وفي تدبّر صحيح لحقيقة النظرة القوميّة الاجتماعيّة يمكننا أن ندرك الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها الديمقراطيّة التعبيريّة فيها، والتي ربّما يقصر البعض عن فهم جوهرها، فيقع في خطأ الممارسة السليمة بها.

والمعلوم أنّ مصطلح الديمقراطيّة علميًّا يعني حكم الشعبِ نفسَه؛ ولكي يكون هذا الحكم قويمًا يجب أن يكون الوعي لحقيقة الشعب سائدًا، والتفاعل بين المسؤول والمواطن راسخًا في أعماق وأعمال كلّ منهما.

وقد ذكر الزعيم أنّ النظام السليم له قواعد:

  • وحدة الهدف أو الغاية.
  • قيادة واعية.
  • سلطة الشعب الذي يحكم نفسه.

وبسقوط واحد من هذه الأقانيم لن تستقيم الأمور، ونكون في مكانٍ آخر خارج عقيدتنا ونظامنا ودستورنا.

وفي دائرة سير الأمور على الطريق الصحيح لا بدّ من الأخذ بالمرتكزات التالية:

  • السلطة للأمة، للشعب على أرضه وعلى نفسه؛ إنّها السيادة القوميّة المرتكزة على المبدأ الأساسي الأوّل، المبدأ الحقوقي الضامن للحريّة وصرخة “وثورة” ضد الظلم؛
  • الزعيم هو المعبّر الأوفى عن حقيقة الأمّة السوريّة، وهو مصدر السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة. وإذا كان سعاده قد غاب في جسده، لكنّه الزعيم الحاضر في تعاليمه.
  • الإرادة السوريّة التي تمثّل مصلحة الأمّة السوريّة هي إرادة عامّة؛ وهذه المصلحة تحدَّد في الاستمرار والارتقاء. (للتوسع في مفهوم المصلحة والإرادة يمكن مراجعة كتابات حضرة الزعيم وخاصة” نشؤ الأمم” و”المحاضرات العشر” وغيرها)

أمّا التطبيق العمليّ فهو في الدستور والقوانين والأنظمة المنبثقة عنه. ومتى فهمنا المنطلقات العقائدية جيّدًا يسهل علينا أن نعي أنّ الدستور والنظام الداخلي المنبثق عنه هما ترجمة عمليّة للديمقراطيّة التعبيريّة؛ كما أنّ الفهم الخاطئ لهما، أو السطحيّ الناقص الأفقي يجعلنا قاصرين عن التمرّس الصحيح بالديمقراطيّة التعبيريّة.

ومن المسلّم به والثابت، واستنادا إلى القاعدة التي لا غنى عنها في تناول أيّ شأنٍ قوميّ، أنّنا وحدة حياة على أرضنا الواحدة، وأنّ الأمّة السوريّة هي مجتمعٌ واحد، هي الإنسان الكامل، وأن الأفراد إمكانيات فاعلة في هذه الوحدة الحياتيّة. لهذا الإنسان الكامل مصلحة هي فوق كلّ مصلحة أخرى؛ وهذه المصلحة يجب أن تكون مصلحة واعية زاويتها التي هي الشمول القومي، وهي التي تحدّد طبيعة الإرادة وتجعلها عاصيةً على كلّ ما من شأنه أن يعطّلها ويحرف مسار المصلحة عن غايتها.

والإرادة السوريّة بالارتكاز إلى المبدأ الأساسي الثاني هي إرادة عامّة، يفترض أن نمتلك القدرة على تعيين ماهيّتها حين تتحقّق أسبابها وعواملها:

السبب الأوّل الموجب هو أن تمثّل مصلحة الأمّة بشكلٍ عام، أو بأيّ موضوع محدّد؛ ولأنّ الرأي يكون بعد الاطّلاع، فمن الضروريّ تحديد أيّ اتّجاه يخدم المصلحة العامّة. وفي هذا الإطار يجب أن يكون الاطّلاع شاملًا أمرين على الأقلّ:

 أ- التعمّق في حقيقة المقياس الصحيح أي المبادئ، التعاليم، الأسس، المرتكزات، باختصار “الزعيم”.

 ب- دراسة تخصصية واضحة للموضوع أو الشأن الذي نريد أن نبديَ رأيًا فيه، لمعرفة ما يتوافق مع المقياس المعتمد أو ما يخالفه.

أما السبب الموجب الثاني فهو أن تكون الإرادة عامّة وهادفة إلى التحقيق العملي؛ وما هو عمليّ هو ما يهدف إليه الدستور والقوانين والنظام الداخلي إلخ… وفي المقدّمة قسم الزعامة وقسم العضويّة وقسم المسؤوليّة والمادّة الثامنة من الدستور.

ولكي لا نبقى في العام والنظري ننتقي مثلًا عمليًّا مفترضًا عند تطبيق الدستور والأنظمة بشكلٍ واعٍ وبروحيّة المنطلقات السليمة: لو انتقيت أحد الرفقاء ليكون مرشّحًا للانتخابات في أيٍّ من كيانات الأمّة، فمن الضروريّ، انطلاقًا من الأنظمة المعتمدة، أن يكون للمؤسّسات الحزبيّة دورٌ، بدءًا من المديريّة ولجنة المديريّة فيها المنتخبة من رفقاء المديرية، والتي لها صفة مراقبة واستشارة، وصولا إلى مجلس المنفّذيّة الذي ينبثق من المديريّات والمفوّضيّات في المنفّذيّة الذي يمتلك صلاحيّات سياسيّة واقتصاديّة وماليّة؛ وبالتالي وجب على مجلس العمد والمجلس الأعلى والمكتب السياسي أن يستشيروا مجلس المنفّذيّة، وإذا اضطرّ الأمر استشارة لجنة المديريّة. [المطلوب درس صلاحيات كلّ مؤسّسة حزبيّة من هذه المؤسّسات ليكون الرأي المعطى سليمًا ومتوافقًا مع الأسس الدستوريّة والقوانين الناظمة]. بهذا نكون قد ارتقينا بالتسلسل الإداري في إطار نظام الحزب المركزي التسلسلي، إلى مستوى تفاعل الآراء في المتّحد المعنيّ وطبّقنا ما هو من عموميّة الإرادة.

وهنا لا بدّ من طرح السؤال: ما هي قواعد الترشّح للانتخابات؟ [من المفيد والضروري أن نعود إلى بيان الزعيم بهذا الشأن لكي يكون الرأي دقيقًا] – يجب أن يكون تابعًا لمديريّة أو مفوّضيّة، ومتمّمًا واجباته الإداريّة والماليّة منزّهًا عن المثالب ملتزمًا بالأسس المناقبيّة. وهكذا يكون التمرّس عمليًّا محقّقًا الإرادة العامّة.

وإذا اعتبر هذا المثل بأنّه غير واقعيّ ويستحيل تطبيقه فالجواب على هذا الافتراض يختصر بكون التفرّد وعدم تطبيق القوانين يعودان إلى جهل أهمّيّة الأعمال النظاميّة ولو جزئيًّا، ناهيك بأنّ البعض قد يتراجع إلى زمن الاعتباطيّة والقطعانيّة رغم أنّه يرغب في أن يكون سوريًّا قوميًّا اجتماعيًّا.

إذن التمرّس بمضمون الدستور وتطبيق القوانين، استنادًا إلى فهمنا للمرتكزات والأسس والقواعد، وخاصّة للذين يتحمّلون مسؤوليّات مركزيّة أو فرعيّة أو المسؤولية الأساسية، وبالتالي لكلّ المؤمنين بالعقيدة القوميّة الاجتماعيّة، هو أمرٌ ملزمٌ. فهذا الفهم وهذا التمرّس هما ضرورتان للديمقراطيّة التعبيريّة.

 صحيح أنّ القرار في هيئة المديريّة هو في الأخير للمدير، وفي هيئة المنفّذيّة للمنفّذ وفي مجلس العمد لرئيس الحزب، ولكنّ قراراتهم جميعًا تأتي بعد نقاشات مع الهيئات، وبالتالي فإنّ القرار يكون قرار رئيس الهيئة أيًّ كانت؛ وإذا كان قرار المسؤول غير صائب وغير متوافق مع حقيقة النقاشات في الهيئة فإنّه يسقط حتمًا ليأتي القرار الصائب بعد ذلك.

 “تؤخذ قرارات المسؤول في جلسة … تدوّن فيها آراء المجتمعين ويبقى القرار بعد التداول للمسؤول مترئّس الجلسة” وإذا ما تعمّقنا بدقة بهذا الأمر نكتشف حقيقة الديمقراطية التعبيرية عمليا”. وهنا أعطي مثلاً عن كيفية خضوع هذه الأنظمة للمفاهيم القومية الاجتماعية وإلا أتى التنفيذ ساقطا”. إذا إدعى رئيس الجلسة أنه يحق له التفرد بالقرار من زاوية فردية فحتمًا سيسقط قراره بالممارسة. إن مرض الأنانية هو مرض هدام مناف للتعاليم وعلينا محاربته كما نحارب المحتل الأجنبي. وهذا يكون بالمحبة والاحترام لآراء بعضنا البعض ومحاولة فهمنا وليس العكس، كما نحاربها بالتمرس بدقة بأنظمتنا من خلال عقيدتنا.

 “… فليس معنى إبداء الرأي تخويل كلّ فرد حقّ الاستيضاح عن كلّ أمر، والمناقشة في كلّ مسألة، هي من اختصاص مراجعها. بل معناه أنّ كلّ من يرتأي رأيًا حسنًا يجوز له تقديمه، والمراجع المختصّة لها حقّ أن تفعل به ما تريد، لأنّه إذا كانت هذه المراجع ستفتح أبوابها للأخذ والردّ مع كلّ سائل ومستوضِح فلا يبقى لها وقت كافٍ لغير ذلك”.(إلى وليم بحليس -31 تمّوز 1943).

نعتبر مما كتبه سعاده أعلاه أن المسائل تعطى لذوي الاختصاص لدرسها والبت بها على ضوء التعاليم. ولا نقدر أن ننسى الكم الهائل من الرسائل التي كان حضرة الزعيم يجيب بها الرفقاء فأصبحت لنا كنزاً هاماً لنحاول أن نفهم كيف تعالج الأمور. وعلينا أن نقتدي بحضرة الزعيم ونفعّل التفاعل بين المسؤول والمواطن راسخًا في أعماق وأعمال كلّ منهما. فبالرغم من قساوة الأيام والضغوط المادية والسجن مرات عديدة وإدارة الحركة والجريدة وكتابة مقالاتها إلخ، كان سعاده يكتب ويجيب رسالة تلو الأخرى.

أود أن أذكر أن علم الإدارة الحديث يتطلب إيجاد وحدة هدف لكل وحدة إدارية وأن تجهد (ولا تلزم) بمحاولة إشراك العدد الأكبر في التفاعل الفكري لصناعة الأهداف والخطط وهذا ما يساهم في النجاح. والتواصل في المؤسسة هو شبيه الجهاز العصبي في جسم الفرد. لقد أعطانا حضرة الزعيم أفضل مما وصل إليه العلم الإداري وبشكل متقدم.

باختصار، ليست الديمقراطية عقيدة بل وسيلة أو طريقة حكم. والديمقراطية التعبيرية هي بين أيدينا في الدستور والأنظمة الداخلية النابعة منه. وهي مسألة إنسانية وبالتالي عقلانية ونابعة من عقيدة ومن نظرة واعية وليست نصوصا فقط.

 

0
0