الحقيقة، هذا المشتق اللغوي من كلمة “حق”، أي كل ما هو صحيح ودقيق وصائب ومنزّه عن كل الشوائب والمستقل عن كل الاجتهادات، القائم على أسس العلم والمعرفة والتجربة والبرهان، باتت تشكل عند البعض حالة من الخوف والرعب والتهرب والارتباك.
لماذا هذا الخوف من “الحقيقة”؟
هل بسبب تعدد أوصافها؟ فمنهم من قال إنها نسبية، أي ما هو حقيقة عند البعض قد لا يكون بنفس الدرجة من الدقة والصواب عند البعض الآخر. ومنهم من قال إنها مجرّدة، أي أنه لا يمكن تحديدها أو ربطها بعوامل أخرى قد تؤثر على مقدار فعاليتها في الحياة والكون والوجود. (مقابل كل هذا، تبقى الحقيقة فعلاً للعقل مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالإبداع والاستمرار، كونه المرجعية الوحيدة لكل توجهاتنا وممارساتنا)
هل لأنه غالباً ما يلتبس على البعض مفهوما الحقيقة والرأي؟ حيث إن الرأي قد يعكس حقيقة، إما اعتباطياً أو لأنه مبني فعلاً على أساس ما هو حقيقي، فقد نقرأ أو نسمع مثلاً “… والحقيقة أن الديموقراطية هي أفضل أشكال الحكم في المجتمعات الراقية“. قد تبدو هذه العبارة عند البعض وكأنها “حقيقة”، وذلك لأكثر من سبب، ولعل أولها أن القائل قد بدأ قوله بكلمة “والحقيقة”، وثانيهما هو أن ما تلا ذلك هو نتاج لفكرة دأب “المفكرون والمحللون وعلماء الاجتماع” على تكرارها ومن بعدهم جاء الببغائيون ليعلنوها غير مرة أن الديموقراطية هي خير شكل من أشكال الحكم. فما المانع إذن أن يتحوّل هذا الرأي إلى حقيقة وما الفرق بينهما؟ المانع والفرق، في آنٍ معاً، هما أن الرأي يتبدد وينهار حين يرتطم بصلابة الحقيقة، أما الحقيقة فلا تتأثر ولا تتغير حتى وإن تعرضت لوابل من الآراء.
بكل أسف نعلنها بأننا تربّينا، حسب إملاءات التقاليد والعادات القديمة والموروثة، على أساس “الخوف من الحقيقة”، الخوف من مشاكلنا أو بالأحرى الخوف من معرفة مشاكلنا أو حتى الحديث عنها، لا بل إلى تحريفها وطمسها وتشويهها، فقط لأننا أصبحنا نفضل الرأي الخاطئ المطلي ذهباً على الحقيقة الناصعة التي قد تحجبها أعمدة من الدخان الأسود. وإليكم هذه الأمثلة عن مفاهيم خاطئة نشأنا عليها في المنزل والمدرسة والإعلام والتربية بشكل عام.
لقّنونا، منذ نعومة أظفارنا، أن أجدادنا غزوا المحيطات والأجواء وهاجروا حبّاً للمغامرة، ولكنهم أخفوا أن بلادهم كانت تعاني من مشاكل اجتماعية واقتصادية بسبب تحكم الطبقة الاقطاعية والسياسية.
علّمونا في المدارس أن الأمراء الذين توالوا على الحكم في بلادنا كانوا عناوين للإقدام والرجولة كالأمير بشير الشهابي بلحيته البيضاء وحاجبيه العريضين، وأُسْقِطَت الحقائق بأنهم كانوا أتباعاً للأجنبي والمحتل، يرضخون لهم وينفذون رغباتهم حتى ولو على حساب خيرات الأمة والوطن.
نخروا رؤوسنا بقصة “أبطال” الاستقلال في قلعة راشيا، مثلاً، عملاء فرنسا وبريطانيا وأجهزة الاستخبارات الأجنبية، وغابت حقيقة سعيد فخرالدين، السوري القومي الاجتماعي، شهيد الاستقلال الأوحد.
تعلّمنا عن مرج دابق وحطين وداحس والغبراء والمناذرة والغساسنة وهبل ورمسيس ونابليون، أما اغتصاب فلسطين ومجزرة دير ياسين ويوسف العظمة فكانت قصصهم حاشيات في قعر صفحات كتب التاريخ والتربية المدنية.
كم كان مسروراً مدرس التاريخ حين طلب منّا أن نردد عبارة مدام بومبادور، عشيقة لويس الخامس عشر، “من بعدي الطوفان”، أما قول سعاده العظيم “إن الحياة كلها وقفة عز فقط” فلم تجد طريقها إلى مخ هذا “الأستاز” الفهلوي.
علّمونا أن نخاف من الحقيقة، لا بل أن نطمسها، لأن إشعاعاتها تفضح ارتقاء الكذابين والمرائين والخدّاعين وأصحاب النزعات الفردية إلى كراسيهم السلطوية ومراكزهم ورئاساتهم، وتظهر تجاوزاتهم وخروقاتهم لكل الأعراف والقوانين والدساتير.
علّمونا أن نتآخى مع الآراء “الذهبية” المشوَّهة (بفتح الواو وكسرها) على حساب الحقائق الجلية والواضحة، حتى أمست فرائصنا ترتعد من الحقيقة، التي من المفترض أن تكون أساس وجودنا، بالأخص نحن السوريين القوميين الاجتماعيين.
“فلا تتركن الحقيقة وتتعلقن بالوهم“،
“إننا حركة صحيحة وجدت الحقيقة والحق والخير والجمال واشتملت عليها تعاليمها“.
“الحقيقة قيمة إنسانية نفسية“.
” أنا لم آتكم مؤمنا بالخوارق بل بالحقائق الراهنة التي هي أنتم“.
إن أي مؤسسة في العالم، سياسية كانت أم اقتصادية، إعلامية أم تربوية، حدّدوها كما تشاؤون، لا بد أن تبني خططها ومبادئها وبرامجها على اسس الحقيقة وليس على أسس ملتوية، لأن القرارات الصلبة والصعبة تكون قواعدها الحقائق والأرقام، لا المزاجية والشخصنة والفردية. فكم بالحري حين تطال القرارات مصائر أشخاص آمنوا بقضية تساوي وجودهم. هذا الخوف من الحقيقة ومحاولات طمسها الذي لمسناه مؤخّراً في الهجوم غير المبرر من قبل البعض على استبيان الفينيق جعلنا نتساءل بالفعل، كيف أن من يتنطح لقيادة أمة ودولة ووطن من مسؤولين و”عمد” ورؤساء أحزاب، من المفترض أن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أسئلة تتعلق بمصير ملايين السوريين والأخطار المحيطة بالوطن من زوايا الأرض الأربع، والتحديات المصيرية والوجودية والسياسات العالمية والقرارات المجحفة بحق شعبنا، يرتجف كالأطفال أمام سؤال “هل ترى أن في الحزب السوري القومي الاجتماعي أزمة؟”. وفي همروجة مضحكة يقيم العميد الأرض ولا يقعدها فيحرص فجأة على المعلومات “السرية والخطيرة” المتعلقة بالمشاركين، غير عابئ هذا “الحريص” بما يتطاير يوميا عبر وسائل التواصل من معلومات وتعليقات وألفاظ نابية وشتائم؟ ومن ثمّ يذهب إلى دحض “علمية” ما يصدر عن القوميين فيقوم بتصنيفهم بين “سطحيين” سذج، انتموا إلى الحزب حديثاً، مجرّداً إيّاهم من حقوقهم (وكأن لهم شروطاً للعضوية تختلف عن شروط الآخرين) و”متدبّرين للعقيدة”، فالعقيدة، بنظره، هي بعهدة قوميين معينين دون الآخرين (وهنا تمر في ذهني صورة لحية الأمير بشير وحاجبيه). فبنظر هذا العميد “المتدبّر والخبير” فإنه من غير المسموح للمنتمين الشباب أن يعبّروا عن آرائهم في أوضاع الحزب.
ماذا يبقى عندكم من مصداقية إن كنتم تخافون الحقيقة؟
ويسألوننا لماذا كل هذا؟ ونحن نجيب “إن لم يكن ما تريد فلا ترد ما يكون حتّى يكونَ ما تريد”.
لا تخافوا الحقيقة بل خافوا مما آلت إليه أوضاعكم وأوضاع من منحكم الثقة من تشرذم وتفتت وانقسام. خافوا من الفشل الذي وصلتم إليه وأوصلتم معكم من تكمّون أفواههم.
0 Comment
ماذا يبقى عندكم من مصداقية إن كنتم تخافون الحقيقة؟
مقال ممتاز
أحييك حضرة الرفيق فادي خوري
الحياة لسوريا و الخلود لسعادة
شكراً رفيق نذير. نأمل أن تتابع مقالات المجلة وتمدنا بآرائك وتعليقاتك من أجل تحسين مواد الموقع، وبالتالي خدمة الفكر القومي الاجتماعي الذي نؤمن به خلاصاً للأمة.
في البدءِ كان ظلامٌ يسود وجه الأرضِ
يسود العقولُ فلا تفكر
الرجال يرددون كلاماً ببغائياً لا يعرفون معناه
والنساء يختبئن وراء ستارة
و من وراء الستر يفعلون ، رجالاً و نساءً ، يمارسون عبوديتهم .
و تتناسل الظلمة
حتى إذا بزغ فجرٌ
و طلعت شمسٌ
رفضوها
لأنها تكشف المخفي ،
تنير أبصارهم و عقولهم
تعودوا ظلمة الكهوف
فعادوا إليها هرباً من النور .
ن . م