يعيش المواطن السوري – ابن الهلال الخصيب – سلسلة من الأزمات لا تنتهي واحدة منها حتى تبدأ أخرى أو أكثر. فمن الاحتلالات المتعددة التي يرزح تحتها المواطن، إلى الفساد ونهب المال العام والخاص، إلى تدني سعر صرف العملات المحلية، ما أوصل الإنسان إلى مرحلة المكافحة لسد الحاجات الحيوية له ولعائلته كالمأكل والمشرب والمدرأ، مستغنيا عن تأمين مصالحه النفسية من علمية ومنطقية وفنية وسواها. ولا شك أن تحت هذا الخراب الكبير هناك أسباب جوهرية لا بد لنا من فهمها إذا أردنا أن نخرج من هذا النفق الطويل.
هناك من يعزو ما يحدث إلى رفض العروبة والإسلام، وإلى محاولة فصل الدين عن الدولة. راجع (كلمة الرئيس الأسد أمام الملتقى العربي، أيلول 2018.) وكذلك كلمته في جامع العثمان، وخطبة وزير الأوقاف السوري في طرطوس، وكلاهما في شهر كانون أول 2020. لن ندخل في تفاصيل الكلمات بل بودنا النظر إلى ثابت أعمق في رأينا من الدين واللغة والعوالم الثقافية العابرة للقوميات كالعالم العربي والفرنكوفوني والإنجليزي، أو كالعالم المسيحي أو الإسلامي. إنه ثابت المصالح القومية الدائمة بغض النظر عن دين المجتمع أو لغته أو انتمائه إلى عالم ثقافي أو ديني واسع. فما هي المصالح القومية؟ ولماذا نرى أنها أعمق من الدين واللغة والعالم الثقافي الواسع؟ ولماذا يجب اعتمادها كأساس لاتخاذ القرارات المصيرية؟
المصلحة عند سعاده، هي “طلب ارتياح النفس.” إنها “سد الحاجة”. فإذا كان الجوع حاجة، فسد الجوع هو مصلحة. التوسع في معنى المصلحة يشمل “كل ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في علاقاتها.” العلاقات الإنسانية لا يمكن ان تحصل خارج المتّحد، فما هو المتّحد الاجتماعي؟ “هو جماعة من النّاس تحيا حياةً مشتركةً في بقعة معيّنة ذات حدود
والمصالح أنواع، المصالح الأساسية من حيوية ونفسية؛ المصالح السياسية المتعلقة بالدولة وكل ما يتفرع عنها؛ وتحت هذا كله نجد المصالح الاقتصادية، “الرابطة الاقتصادية”، والتي هي “رابطة الاجتماع الأساسية، والمقصود بها، ليس عملية اقتصادية، أو غرض من أغراض الربح الاقتصادي، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها.” (أنظر الشكل)
من هذه التعريفات البسيطة ظاهرا، يصوغ سعاده تحديده للأمة، إنها: “جماعة من البشر تحيا حياةً موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.” وحدة المصالح تجمع الناس، والخصائص المكتسبة عبر التاريخ، تميزهم من سواهم. وهذه الوحدة وهذه الخصائص، هي الأساس الواضح للحقوق القومية. إن وحدة المصالح والمصير هي في أساس الحياة. وما هو أساسي للحياة يعتبر حقا لا يمكن التخلي عنه.
حيوية المجتمع
من الاشتراك في دورة الحياة تنشأ حيوية المتحد أو المجتمع. وكلما انتظمت هذه الدورة وتأمن لها السلام لتنمو، فإنها تقوى وقد تمتد خارج حدودها، أما إذا تعطلت هذه الدورة، أو قُطعت أوصالها، كما هو حاصل اليوم – إذا ضُربت الأرضية الاقتصادية – ضُربت المصالح، وتعطلت الحياة ومات المتحد وهجره الناس.
بهذه الرؤية وبهذه البساطة، يشرح لنا سعاده أُسس الحياة السليمة لأي متحد بشري وصولا إلى الأمة، المتّحد الأشمل. ويقول لنا إن المجتمع السوري، بروابطه الاقتصادية، ووحدة أرضه الجغرافية، وتفاعل الأقوام العديدة التي وفدت هذه الأرض واشتركت في الحياة فيها، سلماً وحرباً، عبر العصور، هذا المجتمع له خصائص مكتسبة تميّزه من سواه، بغض النظر عن الدين الذي تؤمن به أكثريته اليوم، أو اللغة التي تتكلم بها أو العالم الثقافي الذي تنتمي له.
فهذا المجتمع قد عرف أديانا عديدة، وعادة ما يتبع فيها الأديان التي تختارها ملوكه أو غزاته. وتكلم لغات عديدة أهمها الآرامية التي كانت لغة العالم القديم التجارية من فارس إلى شمال أفريقيا، وكان جزءا من العالم الهيليني، قبل أن يصبح منطلقا للمسيحية وجزءا من عالمها، ومَقرا للمحمدية وقاعدة لانطلاقتها العالمية. وهو اليوم جزء من العالم العربي يتكلم لغته ويساهم في نهضته متى تمكن إلى ذلك سبيلا.
الثابت والمتغّير
من المقطعين السابقين نستطيع ان نميّز الثابت من المتغير. الثابت هو الأرضية الاقتصادية في قطر معين، المولدة للمصالح والحقوق والشخصية الاجتماعية ذات الخصائص المميزة، والمتغير هو اللغة والدين والعالم الثقافي.
ما يسم عصرنا هو استبدال الثابت بالمتغير وفي هذا أخطار عديدة يتجاهلها دعاة العروبة والإسلام أو لا يدرون بها. أهم هذه المخاطر التنازل عن الحقوق القومية والسيادة لدول عربية وإسلامية لها مطامع في أرضنا. إن دعاة
والمشكلة التي يقفز فوقها دعاة العروبة والإسلام في سورية أن الإسلام المحمدي ليس إسلاما واحدا، ولا العروبة عروبة واحدة. الإسلام كتاب واحد، ولكنه مذاهب ومدارس وطرق وفتاوى. نحن في سورية اليوم بين أربع دول تستخدم ثلاثة أنواع من الإسلام السياسي للنفاذ إلى قلبنا. تركيا ومصر تتناوبان استخدام الإخوان المسلمين، السعودية تستخدم الوهابية، وإيران ولاية الفقيه. ولكل من هذه الدول أتباع ومناصرون مسلمون وعرب وسوريون يقاتلون السوريين في سورية.
والعروبة عروبات. عروبة السعودية غير عروبة الناصرية وهي غير عروبة البعث البعثية. ولا يستطيع كائن أن يقنع أيا من هؤلاء أن عروبته ليست عروبة، أو قل، إنها ليست “العروبة.”
وفيما العروبة المغربية والعربية (السعودية ودول الخليج) والمصرية تسبق الإسلام السياسي على التطبيع مع إسرائيل نجد دعاة العروبة والإسلام في الشام يريدون تحصين المجتمع “الإسلامي العربي السوري” ضد من؟ ضد السوريين الذي لا يرضون عن الهوية السورية بديلا، أو ضد بعض الأقليات التي لا تعتبر نفسها عربية أو مسلمة!
وبعد،
مع هزيمة 1967، انكشفت العروبة السياسية التي وصفها سعاده قبل اغتياله سنة 1949، بأشهر، أنها “وهمية”. الهزيمة خلقت فراغا لم يتمكن الفكر السوري القومي الاجتماعي من ملئه بل ابتدأ الإسلام السياسي بذلك. وبدأت كلمة الإسلام ترافق العروبة بخجل أولا، ثم بقوة، خاصة بعد انتصار الثورة الإيرانية. فإيران، التي لها هي أيضا مصالحها القومية، ولها حيويتها الممتدة خارج حدودها، تريد أن يكون لها يد في المسألة الفلسطينية. وبما أن إيران ليست عربية، فالمدخل لها هو الإسلام.
تحت هذا المشهد، يصبح مصير فلسطين وقفا على “الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني” الذي تخلى، باعترافه، عن ثمانين بالمائة من أرض فلسطين التاريخية يوم قبل باتفاقية أوسلو، وهو يرى اليوم ما تبقى من العشرين بالمائة يهرب من بين أصابعه، وبين دول عربية وإسلامية تتسابق على خطب ود إسرائيل وتقبيل أياديها.
هل يكون في التركيز السوري الأخير على “العرب والمسلمين” تمهيد للقبول بما يقبل به بعض “العرب والمسلمين” حيال فلسطين، أسوة بما سبق وقبل به “الممثل الشرعي والوحيد”؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
استهللنا حديثنا بوصف المجتمع السوري المنهار الذي يكافح المواطن فيه لكي يؤمّن المصالح الحيوية الابتدائية. لا مجال للخروج من هذا الوضع إلا بالعودة الى مقومات الاقتصاد السوري – الأرضية الاقتصادية. وهذه الأرضية هي شبكة من الأنهار الكبيرة والمتوسطة والصغرى تشكل قاعدة للإنتاج الزراعي، وموارد طبيعية هائلة من نفط ومعادن ومواقع سياحية وتاريخية، وطاقات بشرية كامنة في الوطن وأكثر منها في المغتربات، وموقع استراتيجي مهم.
نقطة البداية هي في نظر أهل الحكم في الكيانات السورية الى الأرضية الاقتصادية السورية والمصالح القومية القائمة عليها واتخاذ الخطوات الضرورية لبناء اقتصاد قومي قابل للحياة والتطور والنمو، ونظام سياسي يدير حياة المجتمع بما يؤمن له “حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى”، والتعبير أيضا لأنطون سعاده. لن تنظر الدول المحيطة بنا إلى مثل هذه الخطوة بعين الرضى، ونحن نفهم ذلك. ولكن هذه هي مصلحتنا وهذه هي حياتنا ونحن قوم مهددون بالفناء.
*نص محاضرة ألقيت في 13 كانون الثاني 2021 عبر تطبيق زووم وتابعها عدد كبير من الرفقاء والمواطنين من شتى أنحاء العالم.
0 Comment
[…] اليوم؛ ننشر فيما يلي مقالاً ثانياً للرفيق شحادي الغاوي بعنوان “عروبة العرق والدين واللغة“، ونص محاضرة للرفيق أسامة المهتار بعنوان: “المصالح القومية بين العروبة والإسلام.” […]