الحزب وبيروت: تاريخ العشق والآلام

احمد اصفهاني

Share

  (كان من المفترض أن تنشر هذه المقدمة قبل حوالي سنة مع كتاب عن القوميين الاجتماعيين في بيروت. لكن حدث تأخير للكتاب، فقررت نشر المقدمة لراهنيتها).

بين بيروت وبين الحزب السوري القومي الاجتماعي تاريخ من العشق والآلام. تاريخ ملوّن بالعز والكبرياء كما بالدم والدموع. تاريخ سجّلته أسماء تحفظها الذاكرة الجمعية وتسترجعها في كل آن، عنواناً لعاصمة تعالت على حروب الجماعات المذهبية، وأجبرت البرابرة الصهاينة على التراجع عندما هبّ الأحرار من أبنائها يدافعون عن كرامتها باللحم الحيّ.

تزدهي بيروت، مدينة التفاعل والاندماج وبؤرة الإبداع الفكري والسياسي والأدبي، بقدر ما يكون الحزب فاعلاً في متحداتها. فيفتح لها آفاقاً وسيعة تتجاوز الانعزال المحلي والانغلاق الكياني لتنطلق إلى رحاب الأمة من دجلة شرقاً إلى المتوسط غرباً، ومن سيناء جنوباً إلى طوروس شمالاً… فتكون منارة لأمة ظنها أعداؤها منقرضة.

لم يبخل القوميون الاجتماعيون على بيروت بعطاءاتهم وتضحياتهم وإنجازاتهم في أصعب الأوقات، وكلما دعاهم الواجب إلى الفعل. ولم تتردد بيروت عن احتضان القوميين داخل حناياها أثناء الملمات والظروف العصيبة… وما أكثرها في مسيرة الحزب.

سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، هو الذي زرع بذور هذه العلاقة الخاصة والحميمة مع بيروت وأهلها. عندما عاد من مغتربه البرازيلي سنة 1930 ليبدأ مشروعه النهضوي في الوطن، اختار أن ينطلق من دمشق أولاً لأنها كانت مختبر الحراك السياسي الوطني المعادي للإنتداب الفرنسي في تلك الفترة.

كانت تجربة سعاده مريرة مع الطاقم السياسي السوري التقليدي من رجال “الكتلة الوطنية”. اكتشف أن تلك العقليات الرجعية لا تصلح لمشروعه النهضوي الجذري على الرغم من المساعي الحثيثة التي بذلها. وقد وصف الظروف التي عايشها آنذاك بقوله: “رأيت جو دمشق ملبداً بالغيوم، فتركتها صيف 1932”. وأضاف في مناسبة أخرى يصف الطبقة السياسية الرجعية الفاسدة: “وجدت في دمشق هواءً عليلاً ومناخاً حسناً وأزهاراً جميلة ونساء جميلات، ووجدت غنى كثيراً وكبرياء عظيمة ولطفاً متناهياً… ولكن بحثت عن الأخلاق الحية فلم أجدها”.*

إلى بيروت إذن.

في حدائق الجامعة الأميركية، وطرقات رأس بيروت، وعلى الكورنيش البحري، وفي مطعم أل الحداد… إكتملت لدى سعاده صيغة المباديء الأساسية والإصلاحية التي يريدها مدخلاً إلى حزب يختلف عن أي حزب أو جمعية عرفتها سورية في تاريخها المعاصر. حزب غايته “بعث نهضة سورية قومية اجتماعية” تعيد للأمة حيويتها بعد قرون من الانحطاط والميعان وضياع الهوية القومية.

“هذه مهمة مستحيلة”، قال بعض الذين فاتحهم بالفكرة. ألقوا في وجهه قفّاز التحدي في أن ينجح بجمع أبناء الطوائف المختلفة في حزب واحد وحول عقيدة قومية علمانية واحدة. قَبِل سعاده التحدي لأنه مؤمن بأصالة شعبه… فكانت بيروت المختبر الأول ودليل النجاح.

إلى “الكوخ” الذي اتخذه سعاده سكناً في رأس بيروت توافد أبناء المدينة من كل العائلات ومن مختلف المذاهب، ينتمون إلى طبقات المثقفين والعمال والفلاحين وعامة الشعب، معلنين إيمانهم بعقيدة قومية جامعة محيية. لقد نجح سعاده في تطويع المستحيل… في الوقت الذي أثبتت بيروت أنها عصية على الانتداب وعملائه والمستفيدين منه. فهذه المدينة ليست مطية لقوى الرجعة السياسية والدينية، وإنما هي بعض إشعاع يضيء للأمة كلها طريق الخلاص.

وكما أن بيروت حضنت سعاده وحزبه في مراحل التأسيس الصعبة، ووقفت معه في المواجهات المتكررة مع السلطات الفاسدة، فإن رمل الجناح على شاطئها كان الشاهد الأخير على جريمة العصر حيث قدم سعاده على مذبح النهضة وديعة الأمة التي تجري في عروقه. وما زالت بيروت حتى اليوم تستعيد ذكراه زعيماً وشهيداً كلما أطل فجر الثامن من تموز.

بين بيروت وبين الحزب السوري القومي الاجتماعي تاريخ ملوّن بالعز والكبرياء كما بالدم والدموع. إلا أنه تاريخ مهدد بالضياع في غياهب النسيان مع غياب أبطاله وصانعيه واحداً بعد الآخر. قليلون هم الذين كتبوا مذكراتهم عن تلك الفترة، وهي على ندرتها لا تقدم صورة كاملة عن بيروت وأهلها في الحزب. أما الكثرة فكانت تنتظر من يشمّر عن سواعد الجد لتسجيل تاريخ يتداوله القوميون شفاهاً بما يشبه التراث الفولكلوري.

ولم يكن هناك أفضل من الأمين الجزيل الاحترام لبيب ناصيف لكتابة بعض من هذا التاريخ في أحداثه وفي أشخاصه. فهو ابن بيروت، ملم بشؤونها وشجونها وعلى معرفة شخصية بغالبية أبنائها الذين مرّوا بالحزب خلال مراحل مختلفة. عايش الأحداث العاصفة في بيروت وشارك في صناعتها، وخزّن في ذاكرته ما يؤهله لأن تكون مروياته أقرب ما يمكن إلى الدقة الكاملة.

والأمين لبيب أيضاً ـ وهذا هو الأهم ـ ابن الحزب عضواً ومسؤولاً محلياً ومركزياً منذ الخمسينات وحتى اليوم. دفع ثمن التزامه باهظاً بالملاحقات والاعتقالات والسجون، فلم يتلكأ أو يتقاعس. وساعدته مسؤولياته المركزية، خصوصاً في عمدة عبر الحدود، في أن يبقى على تواصل دائم مع الأعضاء الذين غادروا الوطن ربما إلى غير رجعة! وكانت علاقاته مع الرفقاء تتجاوز الأشكال الإدارية المجردة لتدخل في صميم الخبرات القومية لكل واحد منهم، فاغتنت معلوماته واكتنزت ذاكرته.

وأخيراً تسلم مسؤولية لجنة تاريخ الحزب. ولا شك عندي، من خلال معرفتي الشخصية به، في أنها المسؤولية الأقرب إلى نفسه والأحب إلى قلبه. وكعادته في أية مهمة، إنكب عليها بحماس ليجمع من الرفقاء القدامى تاريخاً حزبياً كاد أن يندثر.

وتحتل بيروت حيزاً مفصلياً في الأرشيف التاريخي الذي ينشره الأمين لبيب تباعاً. وغالباً ما يحرّض النشرُ الآخرين على الإدلاء بمروياتهم كي تكتمل الصورة الحزبية من مختلف جوانبها، خصوصاً وأن بيروت كانت مركز الحزب الرئيسي في معظم الأحيان. ولذلك لا يمكن الفصل بين تاريخها والتاريخ الحزبي حتى في الأوقات التي استقر المركز خارجها.

تاريخ الحزب في بيروت هو تاريخ الأعضاء، كل الأعضاء الذين شكلوا بنيانه الإداري التنظيمي أيام العمل السياسي التعبوي. وهؤلاء الأعضاء أنفسهم كانوا يتحولون بمثل لمح البصر إلى درع المدينة وسيفها في الملمات والمخاطر الداخلية والخارجية. هذا ما أدركه دعاة الفتن الطائفية منذ “معمعة الغوغاء” سنة 1936 وصولاً إلى الحرب الأهلية سنة 1975 وما بعدها. وهذا ما استوعبه العدو الصهيوني عندما دنّس جنوده شوارع المدينة الصامدة سنة 1982.

يقولون إن كتب التاريخ تذكر فقط القادة الذين يضعون بصماتهم على الأحداث الكبرى. لكن الأمر يختلف في حزب نهضوي مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي. فالذين يصنعون تاريخنا الحزبي هم الأعضاء العاديون من خلال نشاطاتهم وعلاقاتهم والقدوة التي يقدمونها للمجتمع، وأيضاً من خلال تضحياتهم دفاعاً عن كرامة الشعب وسيادة الأمة. هذا هو تاريخنا القومي الاجتماعي الحقيقي الغني بالعطاء… والمعمّد بالدم.

وهنا تكمن أهمية ما يقوم به الأمين لبيب. ذلك أن تسجيل ما يتوافر من سير الرفقاء، القدامى والجدد، هو الخطوة التمهيدية الضرورية لكتابة تاريخ الحزب. بعض المرويات لن يكون كاملاً، وهذا طبيعي نظراً إلى البعد الزمني بين وقوع الحدث وتسجيله. غير أن “النتف” و”الشذرات” مجتمعة ـ رغم قلتها أحياناً ـ ستضع أمام القاريء صورة إنسان جديد ينهض على ركام إنسان عصور الانحطاط. كل عضو عامل في الحركة القومية الاجتماعية هو قطرة الماء المنفردة التي قفزت إلى نهر الحياة فأصبحت هي النهر كله، حسب تعبير أديبنا القومي الراحل سعيد تقي الدين.

يتضمن هذا الكتاب قسمين يكمل أحدهما الآخر، ويهدفان معاً إلى رسم إطار واسع لتفاعل الحزب وأعضائه مع بيروت وأهلها. لذلك يجد القاريء نفسه أمام تاريخ حي، متحرك، مؤثر، له دور نهضوي في الحاضر والمستقبل تماماً كما كان له الدور ذاته في الماضي غير البعيد. فالتاريخ الذي يسجله الأمين لبيب ليس ختام فصل أو نهاية مرحلة، وإنما هو صيرورة يومية كلما بلغت قمة تطلعت إلى قمم أخرى أعلى وأسمى!

 

 

* من ملفات التحقيق في الاعتقال الثاني. جان داية، “محاكمة أنطون سعاده ـ وثائق التحقيق الرسمي”. صفحة 73 وصفحة 95.

11 أيلول 2019

 

0
0

0 Comment

Hussein bazzi 19 سبتمبر، 2020 - 7:01 م

عرفت حضرة الامين لبيب ناصيف عن قرب فهو الاداري والعامل الدؤوب وانا المقاتل ..عرفته حين كان يتجول بين ازيز الرصاص يتابع عمله ويتنقل من قضاء الى محافظة الى قرية حتى الزاروب يتابع ملفه حتى النهاية لبيب ناصيف الصارم والمفكر العامل بتاءريخ حزب ومسيرة وسط كل هذا الركام ..

Hussein bazzi 19 سبتمبر، 2020 - 7:04 م

حضرة الامين احمد اصفهاني لك كل الشكر والتقدير على كل ما كتبت وتفضلت بكل تقدير .

جورج يونان 19 سبتمبر، 2020 - 8:52 م

شكرا الامين الجزيل الاحترام احمد اصفهاني.
شكرا على المقدمة التي اعتبرها مناسبة للتشديد على العمل الموءسساتي للحزب. اعرف الامين لبيب منذ سنوات طيلة تعود الى الستينات من القرن الماضي، واعرف المجهود الكبير الذي كرسه لخدمة الحركة وكان اداءه مميزا، ولكن كان على القيادات الحزبية تكليف لجنة وتقديم ميزانية لمساعدة الامين ناصيف في هذه المهمة. اذكر كتابا للموءرخ اسد رستم اسمه مصطلح التاريخ وفيه يبين اصول كتابة التاريخ. التقيت بالامين ناصيف الصيف الماضي في بيته في ضهور الشوير واضطلعت على المستندات الصحفية المتراكمة في دارته ورايت الخيبة في عينيه لان تلك المستندات تحتاج الى جهد جماعي ومادي لم يكن برايي قدرة لاتمامه

Post Comment