التغطية الفقهية للإرهاب

Share

مع كل عملية إرهابية يقوم بها إسلاميون تكفيريون، في عالمنا العربي وخارجه، تتكرر نغمة باتت مملة وممجوجة عدا عن أنها تجانب الحقيقة: إن ما يقوم به هؤلاء الإرهابيون من فظائع لا يمت إلى الإسلام الحقيقي بصلة، أو أنه لا علاقة له قط بالإسلام الصحيح. وما ينطبق على النموذج الإسلامي ينطبق كذلك على النماذج الدينية الأخرى كاليهودية والمسيحية والهندوسية… وغيرها. لكن انتشار ظاهرة جماعات الإسلام السياسي التكفيرية يجعلها موضع تركيز الآن.

هذا المنطق يتمسك به في الغالب قياديون ومسؤولون مسلمون، خصوصاً في الدول الغربية التي شهدت أعمالاً إرهابية دامية. والحقيقة أن المنطق التبريري نفسه رائج في الدول الإسلامية أيضاً، سواء تلك التي تتعدد فيها الأديان والمذاهب أو تلك ذات الانتماء الديني الأحادي. وهو يعني أن هناك إسلاماً حقيقياً وصحيحاً في مواجهة إسلام غير حقيقي وغير صحيح. الأول هو ما تؤمن به وتمارسه غالبية المسلمين حول العالم، بينما الثاني هو صورة مشوهة للإسلام تحملها أقلية معزولة. ونحن نتفهم موقف هؤلاء القادة إذ يحاولون تجنيب المسلمين في أوروبا تبعات ردود الفعل العشوائية في أعقاب كل عمل إرهابي، خصوصاً في ظل تنامي التوجهات العنصرية وأبرزها نزعة التخويف من الإسلام (إسلاموفوبيا).

هذه المواقف، إجمالاً، تقتصر على التصريحات الإعلامية التي تدين الإرهاب وتتنصل من القائمين به والمروجين له. إلا أنها لا تحاول الغوص في الأبعاد الدينية والفكرية والاجتماعية للفكر الإلغائي كما تعبّر عنه “أدبيات” جماعات الإسلام السياسي التكفيرية. وفي الوقت نفسه تحرص بكل ما أوتيت من قوة على تجنب المواجهة الصريحة والمباشرة والحاسمة مع الأسس الفقهية التي ينطلق منها هؤلاء الإرهابيون.

قد لا يكون الغرب جاهزاً للنظر إلى أبعد من مجرد التعاطي الأمني مع ظاهرة “الإرهاب الإسلامي”، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية في العلاقة مع الدول الإسلامية. كما أن القيادات الإسلامية نفسها تجد أن من مصلحتها الآنية إبقاء الاهتمام محصوراً بالظواهر، على أساس أن أية محاولة جادة لتفكيك البنية الفقهية للجماعات التكفيرية ستشرّع كل الأبواب على أسئلة محرجة لن يتمكن أحد من التكهن بنتائجها على صعيد علاقة المسلمين بمجتمعاتهم “الأجنبية” و”الوطنية”.

حتى الآن، وعلى رغم تفشي ظاهرة “الإرهاب الإسلامي” على مستوى العالم، لم يقدم لنا أحد من المعنيين شرحاً لما هو الإسلام الحقيقي والصحيح وما هو الإسلام غير الحقيقي وغير الصحيح؟ ذلك أن طرح هذا السؤال والسعي الفعلي للإجابة عليه سيؤديان إلى سؤال آخر أكثر أهمية وخطورة: من أين تستمد الجماعات الإسلامية التكفيرية غطاءها الفكري، أي ما هي القاعدة الفقهية التي تنطلق منها؟

هنا يبدأ الإحراج الكبير الذي تتهرب القيادات الإسلامية على مختلف توجهاتها من مجرد الإشارة إليه. ذلك أن جماعات الإسلام السياسي المتطرفة تعتمد على تأويلات فقهية (تاريخية ومعاصرة) تشكل الغطاء الشرعي لكل ممارساتها، وتؤمن لها مجال السيطرة على عقول الناس من خلال توظيف “النص الديني المقدس” في إسقاطات راهنة. ولأن هذا “النص” يندرج في سياق إيماني واحد، فإن أي نقد لما هو مخالف سيطال كذلك الموروث الفقهي كله، ومعه المرويات التاريخية المكللة بنظرة يقينية تقع خارج الزمان والمكان.

من يتابع بدقة كتابات منظري الإسلام السياسي التكفيري، الذين يقدمون التغطية الفقهية للعنف الإرهابي، يجد أن الموروث الديني الذي يعود إليه هؤلاء يرد جنباً إلى جنب مع النصوص ذات الأسس المقبولة على نطاق واسع لدى علماء الدين من مختلف المذاهب. ويمكننا الرجوع في هذه الناحية إلى عدد كبير من “الفقهاء” و”المفكرين الإسلاميين” من إبن تيمية إلى أبي الأعلى المودودي إلى سيد قطب إلى يوسف القرضاوي إلى… عشرات آخرين! والمعضلة في هذه الحالة تكمن في عدم القدرة على رفض بعضها وقبول بعضها الآخر في الوقت نفسه. ولذلك يلجأ قسم من هؤلاء المنظرين إلى ليّ عنق التأويلات كي تتوافق مع الظروف المرحلية. والسبب في ذلك أنه من الصعب عندهم نزع صفة القداسة عن النص وعن الشخص حتى لو كانت تأويلات ذلك النص وممارسات ذلك الشخص تقود إلى “الإسلام غير الحقيقي وغير الصحيح”!

في رأينا أنه لا يوجد “إسلام غير حقيقي وغير صحيح” ولا “إسلام حقيقي وصحيح” إلا في مخيلة من يرفض النظر إلى النص والشخص في إطارهما الزماني والمكاني. فعندما نضع النص والشخص على محك النظر العقلي الموضوعي، نستطيع أن نعرّي منظري الإرهاب من التغطية الفقهية التي تتيح لجماعات الإسلام السياسي التكفيرية أن تعاود الظهور مراراً وتكراراً تحت أسماء مختلفة وفي مناطق جغرافية متباعدة، مستوحية من الموروث السلفي ما يتيح لها الاقتداء بنص محدد وشخص معيّن… وصولاً إلى تكفير الآخر وإلغائه بكل الوسائل المتاحة، بما فيها “الإرهاب”.

0
0