قضَّ مصطلح “المدرسة السورية في الشعر”، مضجع العروبيين المهووسين بربط ثقافة المنطقة بالجزيرة العربية، فهرعوا إلى صحراء النفوذ كي ينبشوا أسماء القبائل وآثارها، معتقدين أن ذلك يثبت جذرنا البدوي!
ورغم أن المصطلح المذكور، اخترعه نقاد فرنسيون وانكليز، أرّخوا للشعر السوري في الفترة الهيلينستية التي دامت ثلاثة قرون “332ق.م – 30م”، إلا أن أولئك المهاجمين، تعاملوا معه برُهاب سياسي، كأن “القوميين السوريين” هم من قال به، مع أن النقاد أجانب، وتاريخ المصطلح سبق تأسيس الحزب القومي بكثير! هذا الأسلوب غير العلمي في المعالجة، يذكرنا بساطع الحصري عندما أراد أن يرد على سعاده، فقال إنه لم يجد مكانًا لخط الرمل الذي يفصل الهلال الخصيب عن الجزيرة العربية، والمقصود به صحراء النفوذ!
نتفهّم الهلع الديني الذي يدفع العروبيين لمعاداة كل ما يتعلق بـ”السورنة” كحقيقة علمية تاريخية وجغرافية وُجدت منذ التاريخ الجلي، قبل أن يدخل خالد بن الوليد دمشق سنة 635م. ويكفي أن نذكرهم بأنه قبل هذا التاريخ، كان هناك شعب في سوريا، وكان الناس يتحدثون الآرامية وليس العربية، ويكتبون شعرًا بأوزان مختلفة عن الوزن الفراهيدي، ولديهم ديانات غير الإسلام، ولا يعقل أن نمحو كل ذلك كرمى عيون منظري القومية العربية وساطع الحصري الذي ذهب شخصيًا كي يبحث عن “خط الرمل” بين الهلال الخصيب والجزيرة العربية، فلم يجده!
مصطلح “المدرسة السورية في الشعر” لم يأت من فراغ. فقد تم استنباطه بناء على حركة شعرية ذات ملامح خاصة ولغة متفردة وصور وتراكيب جمعت أولئك الشعراء استنادًا إلى البيئة الواحدة المنتمين إليها. والطريف في هذا الأمر، أن النقاد الغربيين يقولون لنا إن لديكم مدرسة سورية في الشعر منذ ما قبل الميلاد بثلاثمئة عام، والعروبيون يصابون بالهستيريا ويقولون يا أخي ليس لدينا مدرسة ولا بطيخ، فتاريخنا يبدأ منذ اللحظة التي دخل فيها خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح دمشق.
الأمة السورية، إحدى الأمم العربية من دون شك، لكن سوريتها تسبق عروبتها وتتقدم عليها. وما هو حاصل عندنا في العصر العربي اليوم، سبق أن حدث في العصر اليوناني والروماني، وبالتالي فإن النظر إلى التاريخ يفترض أن يتم وفق منظار متحرك وليس ثابتًا، لأن العصور تتعاقب وتتبدل أما هويات الشعوب فتبقى.
ما دفعني لإثارة هذا الأمر، هو الهستيريا العروبية ذاتها التي انتشرت، عندما شرعت أكتب قصائدي باللغتين العربية والآرامية، فقد اعتبر البعض أن ذلك يشكل غزوًا ثقافيًا، مع أنني أكتب بلغة أجدادي وليس بالانكليزية أو السنسكريتية. هذه الآرامية التي مازلنا نتحدث الكثير من مفرداتها في لغاتنا المحكية، تعرضت للظلم والاقصاء رغم أنها بنت البلد وصاحبة الفضل في تطوير اللغة العربية. النظر للغة ككائن مبتور، كان يشبه النظر إلى تاريخ سوريا على أنه يبدأ بدخول خالد بن الوليد دمشق سنة 635م!
استنادًا إلى التفكير الأعوج الذي يفكر به أولئك، لابد أن نقصي ملحمة جلجامش من تاريخنا لأن كاتبها ليس من العرب الأقحاح، وكذلك يجب أن نفعل بجميع الشعر المكتوب بالمسمارية السومرية والآشورية والبابلية والفينيقية وأبجدية أوغاريت، لمجرد أن الكتّاب ليسوا عربًا وليسوا مسلمين! وربما تكبر “الخسّة” بالرؤوس الحامية ليطالبوا أهالي معلولا وجبعدين وبخعا، الذين يتحدثون الآرامية وجزء كبير منهم مسلمون، بالتخلي عن لغتهم الأم، انسجامًا مع العروبة التي لم تفرّق بين القومية والدين، واعتبرت العربية خاتمة اللغات، مثلما هو الإسلام خاتمة الرسالات!
منذ مدة، قال أحد المسؤولين مخاطبًا الجمهور: “هل سمعتم بشيء اسمه أمة سورية؟ لا يوجد شيء اسمه أمة سورية” وبالفعل كان هذا المسؤول على حق. فمعرفة الأمة السورية، تتطلب من المرء أن يرى من التاريخ.. أبعد من الأنف بكثير!