الاستقطابات الحادة تهدد المملكة المتحدة

Share

الفينيق / حزيران (يونيو) 2017 / في السياسة / الدولية

ما هي الدروس المستفادة من نتائج الانتخابات النيابية العامة التي شهدتها بريطانيا قبل أيام؟

لن نتوقف طويلاً عند أسباب وتداعيات فشل حكومة المحافظين في الحصول على الغالبية المطلقة في مجلس العموم. ولسنا معنيين هنا بمصير رئيسة الحكومة تيريزا ماي التي غامرت بالدعوة إلى انتخابات مبكرة فحصدت خسارة مدوية. ولن نحلل العوامل التي سمحت لزعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربن بأن يحقق إنجازات لم يكن أحد يتوقعها له. كما أننا لسنا في مجال التكهن بما ستؤول إليه مفاوضات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي للاتفاق على مسألتي الطلاق، ومن ثم العلاقة الممكنة بعد الطلاق.

إن ما يعنينا، ونستطيع من خلاله الاستفادة من دروس هذه العملية الديموقراطية، هو تحليل الاتجاهات الاجتماعية العامة التي كشفت عنها توجهات الناخبين البريطانيين في زمن صعود التيارات الشعبوية وانتشار النزعات العنصرية حتى في واحدة من “أعرق الديموقراطيات” في العالم. إذ يبدو أن المملكة المتحدة لن تكون في منأى عن مسارات سياسية واجتماعية بدأت تترسخ في معظم الدول المعتمدة على مبدأ الديموقراطية التمثيلية.

أوضح ما أسفرت عنه الانتخابات البريطانية هو استفحال ظاهرة الاستقطابات الحادة، وعودة الناخبين إلى الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك وفق اعتبارات سياسية أو اجتماعية أو طائفية. وقد تم ذلك على حساب الأحزاب الوسطية أو المستقلة، ما يعني أن السياسات الحكومية المقبلة ستكون أكثر انحيازاً للشرائح الاجتماعية التي وزّعت أصواتها ـ إجمالاً ـ على حزبين أساسيين في معظم الأحيان. أي أن البرامج التنفيذية الحكومية ستكون أصدق تمثيلاً للتوجهات الشعبوية العامة.

في أيرلندا الشمالية، وهي إحدى المقاطعات الأربع المكوّنة للمملكة المتحدة، بدا الانقسام السياسي ـ الطائفي في أجلى مظاهره. من أصل 18 مقعداً مخصصة للمقاطعة، فاز الحزب الوحدوي الديموقراطي (البروتستانتي) بعشرة مقاعد في حين فاز حزب شين فين (الكاثوليكي) بسبعة مقاعد. وذهب مقعد واحد للمستقلين. وإذا علمنا أن الانقسام الطائفي هذا يخفي انقساماً سياسياً بين دعاة البقاء جزءاً من المملكة المتحدة وبين دعاة الوحدة مع جمهورية إيرلندا، لأدركنا خطورة هذا الاستقطاب على مستقبل اتفاق “الجمعة العظيمة” الذي وضع حداً لأعمال العنف في تلك المنطقة!

الأمر مغاير في اسكتلندا المجاورة، حيث الاختلاف العميق بين المطالبين بالاستقلال الكامل عن المملكة المتحدة وبين من يرى أن الحكم الذاتي الواسع المطبق حالياً هو الحل الأمثل ولذلك لا داعي للإنفصال. في الانتخابات العامة الماضية، قبل حوالي السنتين، حصد الحزب القومي الاسكتلندي 56 مقعداً من أصل 59 مخصصة للمقاطعة. أما في الدورة الانتخابية الحالية فلم يحصل إلا على النصف تقريباً، في حين فازت الأحزاب الأخرى المناهضة لـ “الاستقلال” بالنصف الثاني. ولا شك في أن هذا الاستقطاب الحاد ستكون له تأثيرات مهمة على ديناميكية العمل السياسي في اسكتلندا من جهة، وعلى علاقتها مع الحكومة المركزية في لندن من جهة أخرى.

بالنسبة إلى مقاطعة ويلز الصغيرة، فهي تتبع في العادة سياسات إنكلترا (القسم الرابع من المملكة المتحدة) وتتأثر بمجريات الأمور فيها. حزب المحافظين الحاكم حصل على 42 في المائة من الأصوات مقارنة بـ 40 في المائة لحزب العمال المعارض، بينما توزعت النسبة الباقية على الأحزاب الأخرى، ومن بينها الحزب الليبرالي الديموقراطي (الوسط) وحزب الاستقلال (اليميني الشعبوي). والذي تبيّن في إنكلترا أن الاستقطاب كان على مستويات عدة: سياسية وديموغرافية وجغرافية متقاطعة. مع التأكيد طبعاً على استثناءات في بعض الدوائر ذات الخصوصية المحلية.

على المستوى السياسي، وجد الناخبون أنفسهم أمام برنامجين متناقضين على أصعدة مختلفة: حزب العمال قدّم برنامجاً اجتماعياً واقتصادياً يميل ناحية اليسار بشدة، في حين حافظ حزب المحافظين على برنامج يرعى مصالح الشركات الرأسمالية والطبقات الغنية. وبرز كذلك خلاف واضح في طبيعة العلاقة المستقبلية التي ستربط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي بعد استكمال مفاوضات الطلاق بين الطرفين. وكان هنالك تباين في مسألة المهاجرين بين من يريد الحد من ذلك بأكبر قدر ممكن (المحافظون) وبين من يطالب بتنظيم الهجرة حسب متطلبات سوق العمل (العمال).

ومع أن الأرقام النهائية لتوجهات الناخبين لم تصدر بعد، إلا أن الاحصاءات الأولية تشير إلى أن جيل الشباب صوّت بكثافة لحزب العمال. بينما ظلّت غالبية المقترعين من الكبار في السن والمتقاعدين على ولائها التاريخي للمحافظين. وظهر كذلك أن سكان المدن الكبرى هم أكثر تأييداً للعمال مقارنة بسكان الأرياف والبلدات الصغيرة التي تتشبث بنزعاتها المحافظة حتى الآن. ومن أبرز ما كشفت عنه الانتخابات الحالية، أن حزب العمال يحظى بدعم الأكثرية في صفوف الأقليات العرقية والدينية في بريطانيا.

إن الأرقام التي حصل عليها حزبا المحافظين والعمل أكدت أنهما كسبا المزيد من التأييد الشعبي مقارنة بالدورة الانتخابية الماضية قبل حوالي السنتين. وهذه الزيادة جاءت على حساب الأحزاب الأخرى التي تراجعت حصصها بصورة واضحة. وفي هذا مؤشر أكيد إلى أن المملكة المتحدة عائدة بلا شك إلى نظام الثنائية الحزبية بعدما كانت قد شهدت في السنوات العشرين الماضية صعوداً لحزب وسطي هو “الليبرالي الديموقرطي” وآخر شعبوي هو “الاستقلال”. ونحن نعتقد أن هذا الاتجاه العام سيتعزز أكثر فأكثر في ضوء التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها المجتمع البريطاني حالياً. الأمر الذي يحمل في طياته تصعيداً في الاستقطاب الحاد الذي قد يقرر مصير الوحدة السياسية والجغرافية

0
0