سنة 1993 تعرض حزب “المحافظون التقدميون” في كندا إلى أسوأ هزيمة في تاريخ البلد حيث فقد أكثريته البرلمانية المؤلفة من 151 مقعدا ولم يتمكن من الاحتفاظ سوى بمقعدين فقط. وقبل ذلك بتسع سنوات، تعرض حزب “الاحرار” لشيء مماثل حين فقد أكثريته المؤلفة من 135 مقعدا وهبط عدد مقاعده إلى 40. في الحالتين، كان هناك ظاهرة داخلية في كلا الحزبين شكّلت أحد أهم عوامل الهزيمة، هي ظاهرة الاستفراد والإقصاء. تتجلى هذه الظاهرة بمَرْكَزَة القيادة والميزانيات في مكتب قائد الحزب وتقريب المتملقين وإبعاد الكفاءات الصادقة التي يمكن لها ان تشكّل حالة تحدٍ لقائد الحزب وسياساته.
الحزب السوري القومي الاجتماعي يمر، منذ سنوات، بمخاض مشابه. في مؤتمر 2012 حذّر أكثر من مندوب أن الحزب لا يستطيع الاستمرار بقيادته آنذاك، بسبب حالة التبدد التي كانت بادية في الحزب. ولكن أغلبيةً المندوبين رفضت التحذير وأعادت انتخاب تلك القيادة. بعد ذلك بأشهر انشق الحزب في الشام. أما القيادة المركزية فاستمرت بإقصاء الإمكانيات الصادقة ومكافأة المتملقين، فتوسع نزف الأعضاء من الحزب. مع انتخابات سنة 2016 حاولت تلك القيادة التجديد لنفسها بما يخالف الدستور، فنقضت المحكمة الحزبية المحاولة، والباقي من التاريخ، بما فيه انتخاب أربع رؤساء في ثلاث سنوات.
ما بودنا التركيز عليه هو ظاهرة الاستفراد والإقصاء. إنه لمن طبيعة السياسة وطبيعة الحكم أن يأتي الحاكم بالكفاءات المؤيدة لسياسته ليعانوه في الحكم. ولكن حين تصبح السلطة هي همُّ القائد وليس القضية التي من أجلها اؤتمن على السلطة، يبدأ الاستبداد، فيُبعدُ الصادقون ويُقرّبُ المتملقون. ولكن كثرة المتملقين تجعل من إرضائهم عبئًا؛ يُبعَد بعضهم فينقلبون على ولي نعمتهم، فينتهي الأمر بخسارة الكفاءات واستعداء المتملقين، فتنكشف هشاشة المؤسسة وتفقد مصداقيتها وتنهار.
غير ان لهذه الظاهرة عارض جانبي يشكّل معضلة منطقية وعملية. آخر المدافعين عن المتسلط هم المبهورون به الذين لا يرون عنه بديلا. إنهم يقرّون ببعض أخطائه، ويعترفون انها أخطاء قاتلة. إنهم يعترفون أنه “مشكلة”، ولكنهم في نفس العبارة يقولون لك، “إنه الحل، ولا حل سواه”! أما كيف تستقيم هذه مع تلك فهذا هو التناقض المنطقي الذي لا حيلة لك تجاهه. عمليا، هذا الانبهار يقود إلى فقدان الرؤية. فإذا لم يكن في حزب عريق كالحزب السوري القومي الاجتماعي، سوى هذا القائد، فهذه خطيئة بل جريمة القائد. فالقائد الحكيم الناجح هو من يُعِدّ القادة الكفؤ للمستقبل لا من يقصيهم.
المبهور يقول لك “من لديه القدرة فليتفضل ويتقدم بمشروعه”. ولكن ما هو المشروع الذي يتقدم به من يطمح إلى الرئاسة للمرة الثالثة؟ لا شيء. أليس لسان حاله “الدنيا في خير.”
عودة الى الحزبين الكنديين، بالرغم من سيطرة قائدي الحزبين شبه المطلقة على جميع مرافق حزبيهما، قدّم كل منهما استقالته قبل أشهر معدودة من الانتخابات العامة بعد أن أيقنا ان الخسارة في تلك الانتخابات آتية لا محالة. في الحزب السوري القومي الاجتماعي، لا يخضع الرئيس والمجلس الأعلى الذي يأتي به لسلطة القوميين. بل إن المجلس الأعلى يأتي عبر أبوة “ذكر نحلٍ” هو المجلس القومي، الذي لا سلطة له. إنها ثغرة دستورية هائلة! أما القوميون، الرافضون للاستبداد، فإن غالبيتهم صوتت بأقدامها. لقد تركوا الحزب. لا، لم يسقطوا على جانبي الطريق كما يقول المتملقون. لقد اتخذوا قرارًا أخلاقيا حرًا. إن الحزب الذي يخضع لمزاجية متسلط فرد وعنجهيته وتملق قيادته وزئبقيتها، ليس الحزب الذي بناه سعاده.
بعد هزيمتي الحزبين الكنديين مرّ كل منهما بتجربة مختلفة: حزب الاحرار عيّن قائدا مؤقتا حضّر لمؤتمر نوعي انتخبت في نهايته قيادة جديدة أخذها تسع سنوات من الترميم ليعود الحزب الى الحكم سنة 2003. أما حزب المحافظين فقد تشظّى إلى مجموعة شعبوية في غرب كندا وحركة انفصالية في كيبيك، وانتهى رسميا سنة 2000. من أشلاء ذلك الحزب ولد حزب جديد هو حزب “المحافظون”، أخذه ثلاثة عشر عاما من تلك الهزيمة المدوّية ليصل إلى الحكم.
الحزب السوري القومي الاجتماعي اليوم هو في حضيض ولكنه ليس آخر حضيض. إننا ما زلنا نتوقع الأسوأ. والأسوأ، هو أربع سنوات أخرى من الانحدار المتسارع، ما لم يحزم المبهورون أمرهم ويواجهوا المتسلط بالقول إن مدة صلاحيته قد انتهت. عندها، وعندها فقط، يمكن لهم وللقوميين المخلصين البحث عن قائد جديد لمرحلة موقتة أو دائمة، يصار فيها إلى وضع خطط الإنقاذ.
0 Comment
مقاربة ممتازة وهذا خير الكلام الذي يؤكد نظرتنا الدائمة لضرورة اتباع الحوكمة الصحيحة والرؤية الإستراتيجية.
شكرا عل التعليق، إنها لمن الأساسيات.