الجدل حول ظاهرة “الربيع العربي” مازال قائماً ويتسبب بعداوات كبيرة بين المتحاورين. هل هي ثورات أم احتجاجات ينقصها التنظيم؟ لماذا استغلتها الأطراف الدولية واستثمرتها وكيف تمكنت من حرف مسارها؟ هل ضيّعت تلك التحركات الشعبية الفرصة أمام قيام ثورة حقيقية في البلدان العربية المؤهلة للثورة؟ ولماذا غابت النخب عن قيادة هذه التحركات الشعبية ولم تنتج عنها برامج عمل واضحة وتشكل قاسماً مشتركاً لجميع فئات المجتمع؟
التحركات في بعض بلدان العالم العربي، شكلت فرصة ذهبية لطموحات دول متعدِّدة على تماس جغرافي مع تلك الدول أو بعيدة عنها لكنها ذات قوة عالمية. فالدول الكبرى عادة ما تلجأ إلى استخدام أوراق متعدّدة حسب الأوضاع العامة في البلد المستهدف وحسب الحالة، فهناك أوراق عدة في يد كلّ دولة لكلّ مجتمع، يتمّ استخدام ورقة وسحب أخرى تبعاً للواقع المُستجدّ لنفخ هذا التحرك أو تحييده أو مصادرته، فالظاهرة مُركّبة ما بين إشكاليات وتراكمات الداخل ومصالح دول وشركات ومجتمعات متقدّمة تتربّص بأيّ تحرك لتنفذ مصالحها في الهدم والتغيير عبر طرح الشعارات.
والأكثر من هذا أن هذه الدول لا تكتفي بما يجري على الأرض بل تعمل على تسويق أفكارها وشعاراتها إعلامياً على أنها إنجاز ثوري يمثل خطوة في اتجاه بناء الدولة وفق طروحات الديمقراطية والاستقلال، لكن سرعان ما نكتشف أنّ هذه الدول تستغلّ هذه التحركات وتطيل الأزمة إلى أن تنضج مواسم القطاف. تلك الدول تستفيد من التخريب وضرب البنى التحتية ومن الشرخ الاجتماعي، والأهمّ من ذلك كله أنها تنتظر أن يعود عليها ذلك بأرباح كبيرة، حين تدخل من نافذة إعادة الإعمار وإعادة هيكلية الاقتصاد.
تم صُنع «داعش» لخلق حالة من الرعب في أكبر مساحة ممكنة سواء في الشام أو في العراق وفي أي جغرافيا يحلّ فيها ذلك التنظيم. فكانت ظاهرة همجية بالمصطلح السياسي الحديث، وظاهرة مسخ للتاريخ الإسلامي وقراءة منحرفة للدين. مشروع يدمّر من دون أيّ وازع. هذا التنظيم قام على فكر تكفيري ينكر الآخر في المذهب والدين والعرق. لكنه فشل في تقديم النموذج المطلوب للمجتمع ليس فقط بسبب عقيدته المتخلفة، بل لأنه ليس لاعباً أصيلاً بل مسخاً تمّ استغلاله بشكل سيكولوجي لخلق حالة من الذعر.
كان أداة لخلق بؤر متناحرة وتقسيم المنطقة وخلق واقع جديد. فكانت دولة العراق والشام عبارة عن عنوان مؤقت رفعه ذلك التنظيم كشعار جغرافي محدّد، ولكن ما إن استقرّ وسيطر على مواقع متداخلة جغرافياً حتى منع ترويج هذه الفكرة وانطلق إلى تسمية «الدولة الإسلامية» التي تجاوزت هذه الجغرافيا.
من هنا بدأت تلك «الفوضى الخلاقة» التي تحدثوا عنها، ليعيدوا هيكلة «الشرق الأوسط الجديد» الذي يسعون إليه، وهو مشروع قائم على تقسيم المقسّم، ويستهدف الشام والعراق وربما لاحقاً لبنان والأردن، لأن الفكرة من وراء التقسيم هي استنزاف واستهلاك كلّ الإمكانات، لكي تبقى هذه المنطقة مجموعة بؤر متخاصمة ودولاً متقاتلة. دول لا تمتلك إلا أن تكون إمارات أو تجمّعات صغيرة، لأنّ أسس الدولة قد اضطربت فيها وبقيت مشاريع الطائفة أو المذهب.
تعرضت سورية طيلة أربعة قرون للاستعمار العثماني، ولكن سرعان ما بدأت هذه الإمبراطورية تنهار بعد قرون من الزخم والقوة العسكرية والامتداد، وبالتالي بدأت الدول والشعوب تنهض وتستيقظ. الاستعمار الحديث عدل من استراتيجيته وانتقل إلى الاستغلال الاقتصادي والتمزيق الجغرافي الذي يضمن استثمار الثروات بشكل دائم. ورغم وضوح هذه الاستراتيجيا للدول الكيانية التي نشأت بعد سايكس بيكو، إلا أنها لم تتمكن من بناء الخطة المعاكسة للرد على ذلك وربما لم تشأ أن تضع اللبنة الأولى في بناء الدولة الحديثة الموحدة.
لم تستطع بلاد الشام رغم أننا استقلالها منتصف الأربعينات، إنشاء أيّ ظاهرة توحيد، وبالتالي استطاع الخارج الاستفادة من الشرخ ومن عجز الإنسان السوري، فجزّأ الوطن للحفاظ على مكاسبه الاقتصادية والسياسية والعسكرية وسيطر على ثرواته لتغذية مصانعه وإنتاجه ومعامله بالمواد الأولية الموجودة بوفرة في بلادنا.
سورية الجغرافيا والتاريخ لا تستطيع أن تتحمّل التجزئة المصطنعة لأنها بيئة واحدة وهذه البيئة تحتضن كلّ هذا التفاعل الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يؤمّن زخماً للمستقبل وإنْ كان يعتريه بعض الفتور.
لو تم الأخذ بمقولة امتداد الحياة والشعب الواحد، وإنْ كنا في كيانات متعددة، لحققنا ما حققه الاتحاد الأوروبي فأزلنا الكيانات وفعّلنا دورة الاقتصاد بشكلها الطبيعي من دون أيّ توجه مصطنع، وبنينا صناعة مدنية قد تصل إلى صناعة عسكرية، وبالتالي بناء دولة قوية تعتمد على نفسها وخبرات أبنائها. لدينا رأس مال وموارد خام وأيد عاملة وخبراء. هذا التنوّع كفيل بأن يخلق قوة يكون لها تأثير على مستوى الإقليم، ليستطيع مواجهة كلّ التحديات الإقليمية الموجودة، وبطبيعة الحال عندما تكون قوياً ستكون قادراً على مواجهة القوى الدولية.
في علم السياسة لا يمكن أن تربح كلّ شيء وتحرم الآخر من كل شيء، لأن العمل السياسي من المفترض أن يتمّ وفق رؤية مشتركة لحماية الاستقرار وتحصينه، لكن من دون تدخلات وضغوطات خارجية.
عندما يكون التوافق السياسي ممكناً، يمكن أن يُعاد بناء الوطن بشكل قوي وحضاري إذا اعتمد على فصل السلطات وإعطاء الحريات العامة ضمن مفهوم بناء دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة بحيث تحفظ وتحترم كلّ الأديان والرؤى والاجتهادات المتنوّعة.