الأكراد… المشروع المتحول
مازن بلال (*)
يمكن وصف الأزمة السورية بأنها “مأزق تراكم جيوستراتيجي”. فهي لم تتوقف عند حدود الاضطراب الإقليمي الذي خلفه ما يسمى بـ”الربيع العربي”. كما أنها تجاوزت البنية السياسية الداخلية والصراعات التقليدية منذ أواسط القرن الماضي، وأنتجت بُنى هامشية تطورت عملياً على حدود الدولة السورية، فكانت “داعش” في الشرق و”النصرة” في الشمال الغربي وفصائل إسلامية أخرى في الجنوب. وكسرت فعلياً آخر خطوط النظام الشرق أوسطي القائم منذ اتفاقية “سان ريمون” عام 1920. فتمدد “داعش” حتى وسط سورية لم يكن حدثاً عادياً، ولا يمكن تفسيره فقط بانتشار التشدد الإسلامي، بل هو ظاهرة تضخمت على هامش الجغرافية الهشة لمنطقة شرقي المتوسط عموماً
إن أحد العوامل التي برزت بقوة خلال المراحل الأولى للإضطراب تجلى في التحركات الكردية. ورغم أنها ليست جديدة بالنسبة إلى الشمال الشرقي لسورية (منطقة الجزيرة)، لكنها تطورت بشكل يوازي انتشار “داعش” على طرفي الحدود السورية – العراقية. ثم شكلت لنفسها مشروعاً مستقلاً تماماً عن الحراك الكردي خلال العقود السابقة. ورغم الاختلاف النوعي بين “داعش” و”النصرة” والحركة الكردية، لكنها جميعها تعبّر بشكل أو بآخر عن انهيار التوازن السوري الداخلي الذي يقابله مفهوم “الدولة الصلبة” التي سادت منذ الاستقلال وحتى العام 2011.
الأكراد: دوافع القوة
ضمن المشهد السوري، كان تصاعد الحركة الكردية مختلفاً عن كل مظاهر الاضطراب التي شهدتها سورية، حيث تميز بأمرين أساسيين:
الأول، عدم خروجه خلال العام الأول عن إطار الاحتجاج السلمي، فلم تشهد مناطق الجزيرة السورية سقوط ضحايا خلال التظاهرات التي امتدت لأشهر.
الثاني، تبلور صراع سريع ومنظم ضد التحركات المتطرفة، وعلى الأخص “داعش”، مع تطور الحدث وبدء انتشار “داعش” و”النصرة” في المنطقة.
ضمن التصور العام، كانت الحركة الكردية الأكثر تنظيماً على مستوى التشكيلات السياسية. إلا أن محاولات بعض الأطراف الإقليمية والدولية للإسراع في إنتاج هيكل سياسي معارض في مواجهة الحكومة السورية هي التي شتتت الجهد السياسي للأكراد، ودفعت حزب الاتحاد الديمقراطي إلى تصدر المشهد لأنه ليس الأكبر فقط، بل أيضاً القادر على التعبئة والمواجهة العسكرية مع التشكيلات المتطرفة. ورغم تشكل المجلس الوطني الكردي الممثل داخل “الإئتلاف السوري المعارض”، فإن السيطرة على الأرض بقيت لقوات حماية الشعب الكردي PYD التي حملت زمام المبادرة وصولاً إلى طرح مشروع “الكانتونات الفيدرالية”. وهي تشكل الجناح العسكري للاتحاد الديمقراطي، رغم وجود فصائل أصغر منضوية داخلها. وقياداتها ليست محلية بالمطلق، فالعديد من كوادرها العسكرية يأتي من جبل قنديل. وعلى العموم، فإن عناصر القوة التي تميزت بها تعتمد على:
ـ التسهيلات التي قدمتها الحكومة السورية لحزب الاتحاد الديمقراطي في بداية الأزمة، وذلك كموقف سياسي لمواجهة عداء الدولة التركية لسورية.
ـ الامتداد الواسع للاتحاد الديمقراطي الذي يشكل جزءاً من حزب العمال الكردستاني بكل ما يملكه من تاريخ بالنسبة إلى الأكراد.
ـ اختلاف مشروع الاتحاد الديمقراطي عن المشاريع المرتبطة بإقليم كردستان العراق، فحركة الاتحاد الديمقراطي لديها مشروعها الأوسع والأكثر مرونة.
ـ القوة العسكرية التي استطاعت فرض واقع على الأرض، والتحرك دون الغرق في مستنقع الصراعات السياسية لباقي الأحزاب الكردية.
ما شكلته فصائل PYD لم يكن حالة عادية بالنسبة إلى بقية الفصائل المسلحة التي انتشرت على الأرض السورية، فهي لم تصطدم مع الجيش السوري إلا بشكل متأخر وعبر قوات “الأشايس” (قوات الأمن الداخلي الكردي) في مدينة الحسكة. وكان لغياب التمثيل المباشر للأكراد في كل جولات جنيف دور في رفع وتيرة القوة بالنسبة إلى قوات الاتحاد الديمقراطي، لأنها سعت إلى فرض المشروع على الأرض، في وقت لم تكن الفصائل الكردية التي ذهب ممثلوها كمستشارين إلى جنيف تملك تصوراً لأي مستقبل سياسي.
مشروع “سورية الديمقراطية”
التلاقي الأميركي مع المشروع الكردي جاء متأخراً جداً. فهو بدأ بعد استنزاف كامل مع كافة القوى والفصائل المسلحة في الشمال السوري، وأتى أيضاً مع التخطيط الأميركي بشأن مدينة الموصل وتحريرها من “داعش”. وكان من الصعب على واشنطن إيجاد “حليف كردي” بشكل مطلق، فظهر ما يسمى “جيش سورية الديمقراطي” الذي يضم عشائر عربية وسرياناً وآشوريين، ولكن عصبه الأساسي من الأكراد. وبغض النظر عن بنية هذا “الجيش”، لكنه يشكل “المساحة” التي تريدها الولايات المتحدة بعيداً عن المناطق التي تنتشر فيها “فصائل” يمكن أن تنقلب سريعاً، أو تخضع بشكل ما لقوى إقليمية مثل السعودية وقطر.
والواقع أن المشروع الكردي في سورية عاد وتأقلم مع الطرح الأميركي، فألغى تمدد الإدارة الذاتية الكردية (روج آفا) غرب نهر الفرات، محتفظاً بمكاسبه شرقي النهر. والاختبار الحقيقي لقوات “سورية الديمقراطية”، بما تحمله من طموح كردي، سيظهر لحظة اتخاذ قرار نهائي بتحرير مدينة الرقة. فالاعتماد الأميركي على “الحليف الكردي” يخلق عملياً منطقة نزاع مزدوجة: الأولى مع تركيا التي دخلت مدينة الباب السورية لـ”تمزيق المشروع الكردي”، والثاني مع إقليم كردستان العراق الذي يرى في حزب الاتحاد الديمقراطي منافساً إقليمياً قوياً. وفي المقابل فإن الدولة السورية لديها “جزر” داخل مناطق النفوذ الكردي أهمها مطار القامشلي، وهذا ما يعقد الواقع الذي تسعى الولايات المتحدة إلى خلقه عبر تحالف مع قوات سورية الديمقراطية”.
المشروع الكردي الذي يتبلور في الشمال الشرقي لسورية لا يبدو، من منظور دولي، حالة كردية بالمطلق مثل إقليم كردستان العراق. فهو يظهر، في إطار الاشتباك السوري، كجغرافية لتحديد النفوذ في الصراع على سورية. وربما لهذا السبب تبدو تركيا “مشلولة” تجاه ما يجري. والأكراد سيواجهون مستقبلاً استحقاق البحث عن موقع لمناطق سيطرتهم ضمن الخارطة التي تتشكل اليوم على الأرض السورية. فهم حتى الآن ضمن البُنى الهامشية التي أنتجتها الأزمة، رغم أنهم مختلفون نوعياً عن باقي التشكيلات التي ظهرت.
____________________________________
مازن بلال – كاتب وإعلامي سوري عمل في عدة دوريات عربية، ورئيس تحرير موقع “سورية الغد”. له عدة مؤلفات منها: “المسألة الكردية”، “أزمة التفكير التراثي”، “الحرب غير المتوازية”، وكتابان بالاشتراك مع نجيب نصير: “الدراما التلفزيونية السورية” و”الدراما التاريخية السورية”.