قرأنا قبل أيام التصريحات الحكومية، التي أكدت أن الشتاء الماضي كان الأصعب من ناحية التغذية الكهربائية، وأن الأشهر القادمة ستشهد تحسنًا في الواقع الكهربائي. لم يأخذ السوريون هذا التصريح على محمل التفاؤل، فقد سبقته عشرات التصريحات المماثلة، كان أكثرها جديّة ما طُرح عام 2020، عندما خرج وزير الكهرباء ليطمئن المواطنين، ويؤكد لهم أن الواقع الكهربائي يتجه للتحسن خلال الشتاء القادم، وأن “من حق المواطن أن يحصل على 24 ساعة كهرباء متواصلة، وسيلحظ تحسّنًا في التغذية الكهربائيّة خلال الأيام القادمة. وحسب المتوقع، فإن هذا الشتاء “سيكون مريحاً كهربائياً نوعاً ما.”
مرّ الشتاء، وتبعه الربيع، فالصيف، ثم الخريف. وصولاً إلى شتاءٍ آخر، والمواطن يعيش على أمل بلوغه أدنى درجات الراحة. ليس الراحة، بل شعوره الزمني بانقضاء 22 سنة من الألفية الثالثة، أو بوجود الكهرباء في حياته أساسًا.
عندما تقدّم (أديسون) بتسجيل براءة اختراع المصباح الكهربائي عام 1880، كانت الكهرباء قد اكتشفت قبله بمئتي عام على أقل تقدير، وطُوّر انتاجها وصولاً إلى مصباح أديسون، وبعد أقل من 27 سنة دخلت الكهرباء إلى دمشق عبر شركة بلجيكية، وقد سبقنا مدينة لوس أنجلس الأميركية بتطويع الكهرباء.. أما اليوم، وبعد انقضاء أكثر من مئة عام على هذا الحدث العظيم، نعود أدراجنا إلى ما قبل أديسون، فبعض السوريين في بعض المناطق، تصلهم الكهرباء مدة نصف ساعة يوميًا، بحيث لا يمكنهم الاستفادة منها بشيء، سوى للمفاجأة، والتذكير بموعد إطلاق الشتائم.. أما دمشق، صاحبة الحصة الأكبر من الكهرباء، فيحصل سكانها على ساعة كهرباء واحدة، كل 4 ساعات قطع، إلا ما استثني من مناطقها، لضرورات صحية خاصة بالحالة النفسية لسكان تلك المناطق، علّهم لا يحتملون ساعات القطع الطويلة.
لم تعد الكهرباء تعني الضوء والتدفئة فقط، فالتطور البشري تجاوز تلك الأمور، والكهرباء لامست جميع تفاصيل الحياة، بدءًا من أجهزة الاتصال الذكية والشبكات، مرورًا بالتعاملات الإلكترونية، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي، من دون أن ننسى الأمور الطبية، التي باتت تعتمد اعتمادًا كليًا على تطور وحساسية الأجهزة الالكترونية، الأمر الذي أدى إلى خروج عشرات الدراسات التي تبحث في مسألة وجوب ذكر الكهرباء صراحةً ضمن بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عازية الأمر إلى أن “الكهرباء هي مُنتج أساسيّ وضروريّ من أجل الحياة البشريّة الكريمة والصحّيّة، وقد تكون شرطًا من شروط الحياة نفسها، فتدفئة مكان السكن في الشتاء وتبريد الغذاء والأدوية، وتشغيل الأجهزة الطبيّة، كلّها أمور متعلّقة بتوفير التيار الكهربائيّ بشكل منتظم.”
تؤكد المنظمات الراعية لتلك الحقوق، ضمن أوراقها البحثية، أن “الكهرباء حق مشتق من حقوق الإنسان، فهو حق يقوم على حقوق أخرى، مثل الحق في السكن الملائم..”، وتؤكد في ورقة أخرى بالقول: “يؤثر الحصول على الكهرباء في قدرة الأفراد على الحصول على التعليم، والتواصل، وإعداد الطعام دون تلوث الهواء، وبالتالي فإن الحصول على الكهرباء يُعد أمرًا رئيسيًا لتحسين حياتنا وتلبية احتياجاتنا، ويجب إيجاد طرق لحماية وتعزيز هذا الوصول.”
لكن بعيدًا عن حقوق المواطنين في الحياة الكريمة وواجبات الحكومة تجاههم، نجد مسألة غاية في الأهمية والخطورة، وهي ارتباط الكهرباء بتطور اقتصاد الدول، ففي إحدى الدراسات اللافتة للانتباه، قامت باختبار العلاقة بين نمط الاستهلاك الكهربائي، وتنامي الرفاه الاقتصادي والقوة الشرائية، لأكثر من 100 دولة، مجموع ثرواتها تتجاوز 99 في المائة من إجمالي الثروة العالمية، الدراسة اختبرت نوع العلاقة إن كانت طردية أم عكسية، ومدى قوتها، وكانت النتيجة وجود علاقة طردية قوية بين المتغيرين، ما يؤكد وجود علاقة وطيدة بين انتاج الكهرباء واستهلاكها، وبين النمو الاقتصادي، فانخفاض انتاج الكهرباء يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي.
وفي دراسة أخرى استندت على الاحصاءات العالمية، وجدت ان استمرار انقطاعات الكهرباء، يخفض النمو في البلد بمقدار 1.1% سنويًا، ما يعني انخفاض عدد الوظائف بحوالي 120 ألف وظيفة، كما وجدت الدراسة أن انخفاض امكانية الحصول على الكهرباء، قد يكون سببًا في اعاقة الحصول على التكنولوجيات الحديثة واستخدامها، وبالتالي انعكاس ذلك سلبًا على النمو الاقتصادي.. والنمو الاقتصادي: هو عملية تحقيق معدل نمو مرتفع لمتوسط دخل الفرد الحقيقي، خلال فترة من الزمن، على ألا يصاحب ذلك تدهورًا في توزيع الدخل، أو زيادة الفقر في المجتمع.
أما عن انخفاض الدخل، وفقر المجتمع، فالسوريون لا يحتاجون إلى تعاريف، لفهم تلك المصطلحات، فهي باتت تشكل واقعهم اليومي الطبيعي، وهمّهم المُعاش.. وبدلاً من إيجاد الحلول، تخرج عليهم الحكومة لتؤكد حرصها الشديد على التوزيع العادل لما تبقى من كهرباء، وتذكرهم بما تتكبده من خسائر نتيجة دعمها الكبير لهذا القطاع.