“ولما كنت في المسائل العملية عمليا جدا…” (سعاده، رسالة الى تويني تاريخ 4 آب، 1946.)
تمهيد
سألني رفيق منذ أيام قائلا: “كيف نعرف ان ما كتبته عن “النظرة” عند سعادة هو حقيقة، وهل يعقل ان يترك الزعيم موضوعاً خطيراً كهذا مدفونا في سطر واحد من كتاب الصراع الفكري في الادب السوري؟ ألم يكن حريًا به، إذا كانت هذه النظرة بمقدار الاهمية التي تصفها، ان يضعها في الدستور او في مكان بارز من كتاباته؟
ليس لدي جواب عن السؤال الاول سوى ما كتبه سعادة في الصراع الفكري في الادب السوري لناحية ان “الحزب قد تأسس بسبب هذه النظرة”. أما بالنسبة للسؤال الثاني فإن موضوع ترقية الحياة هو من أكثر المواضيع التي تناولها سعاده في عدد كبير من كتاباته، ولعل أهمها ما جاء في المحاضرة العاشرة، والتي يشرح فيها غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي.
ولكن سؤال الرفيق يقودنا الى بحث آخر نلمّح اليه اليوم دونما استفاضة وهو ان هناك الكثير من الجواهر المكنونة في كتابات سعادة الوافرة، ولاستخراجها يلزمنا أمران: الأول دراسة تراث سعادة وليس الاكتفاء بقراءة سردية له، والثاني هو منظور الدراسة، أي المدخل العلمي او الثقافي أو الفلسفي المستخدم في البحث.
وللتوضيح أقدّم المثل التالي الذي يدخلنا الى صلب موضوع اليوم.
في رسالة سعاده إلى غسان تويني تاريخ 9 تموز 1946 ترد العبارة التالية: “إن خطط الحزب السوري القومي الاجتماعي كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه لم ترمِ قطّ إلى نشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحربا لتحقيق غايته.”
لقد قرأت رسائل الزعيم عشرات المرات. ولكني درستها مرة واحدة وذلك اثناء قيامي بالأبحاث لكتابي إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية. وكنت في كل مرة اقرأ الرسائل، اتوقف عند هذه العبارة وأقول لنفسي انه عليَّ ان اعود اليها واغوص فيها لكي استجلي ما هو المقصود منها ومن تطبيقاتها العملية. وحدث انني كنت في دورة دراسية في التخطيط الاستراتيجي في واشنطن، فإذ بالمدرّس يشرح انه لا بد لكل استراتيجية من “إطار” يوجه سيرها لتحقيق الغاية المنشودة. فورا، تبادرت رسالة الزعيم الى ذهني، وسألت نفسي، هل هذه الكلمات الثلاث هي الإطار الذي عبره وجه سعادة خططه باتجاه تحقيق غاية الحزب؟
انتهت الدورة وعدت الى مكان إقامتي، وبدأت البحث. نعم، قال سعادة إن حزبه منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحربا لتحقيق أهدافها. ولكن هل قام بذلك فعلا؟ وكيف نعرف انه حتى إذا قام بذلك فعلا، يمكن لنا ان نسمي ما قام به “إطارًا لإدارة الاستراتيجية”؟ فما هو إطار إدارة الاستراتيجية؟ ما هي أهميته وكيف نطبقه؟ والأهم بالنسبة لنا هو كيف طبقه سعاده؟
إطار إدارة الاستراتيجية
الإطار، قاموسيا، هو كل ما أحاط بالشيء. والإطار الإداري هو السياسات المحيطة بالعمل الإداري والموجهة لها على كل المستويات. وكلما ارتفعت النظرة الإدارية من الناحية العملانية الى الناحية الاستراتيجية، قلّ عدد الاضلاع الموجهة للسياسات واتسع أفقها.
أهمية الإطار انه يجمع قوى المؤسسة وينظمها في خطة عمل لا تخرج عن الإطار العام، بل تستخدمه لتجديد قواها وفق مسار واضح. هناك العديد من هذه الأطر المستخدمة في الإدارة من أبرزها ما يعرف بـ EFQM وهو مختصر لـ European Framework for Quality Management، أو “الإطار الاوروبي للتميّز في الاعمال”، ويقوم على الركائز التالية: القيادة، فالسياسة والاستراتيجية، والعاملون، والشراكات والموارد، ثم أنظمة العمليات، فالنتائج الحاصلة لكل من المجتمع والعاملين وأصحاب العلاقة، فمؤشرات الأداء. ويحيط بهذه كلها المحفزات، وأنظمة التعليم والابداع والتطوير، فالنتائج.
هذا إذا شكل من اشكال الأطر التي يمكن استخدامها، والهدف من هذا الإطار هو التميّز المستدام في العمل. والتركيز هنا هو على التعلم والتطوير وقياس النتائج استنادا الى حاجات المؤسسة، ومن ثم العمل على التعلم والتطوير من النتائج الحاصلة لإجراء التعديلات اللازمة في القيادة او السياسات والاستراتيجيات او العاملين او أنظمة العمليات.
هناك منهجية صارمة في تطبيق الأطر الإدارية تجد ذروتها في المنظمة الدولية للمقاييس ISO حيث تفرض المنظمة مجموعة من التدابير التي على المؤسسة اتباعها لكي تحظى بشهادة في تطبيق مقاييس الأداء المتميّز. ولكن هذا ليس موضوعنا. موضوعنا هو إدارة الاستراتيجية عند أنطون سعاده. هل نفذ ما قاله في رسالته لتويني وكيف؟ وهل ساعده هذا الإطار في تحقيق الهدف الذي أعلنه في تلك الرسالة وهو “تحقيق غاية الحزب.”
الغاية الاولية
أدرك سعاده ان تحقيق غاية الحزب لا يتم بقفزة واحدة كما يفصل ذلك في رسالته آنفة الذكر الى غسان تويني. لهذا، وضع لنفسه ولحزبه غاية مرحلية، سمّاها غاية الحزب الاولية وتقضي بان يصبح الحزب حركة الشعب العامة. (من دفاعه امام قاضي التحقيق الفرنسي في المحكمة الاولى بعد انكشاف امر الحزب.)
لن نستفيض في شرح مفهوم حركة الشعب العامة فهذا يقتضي بحثا خاصا. ولكننا نكتفي بالقول، إن القيادات الحزبية المتعاقبة سواء اثناء غياب سعاده، أم بعد استشهاده، قد اهملت هذه الغاية الاولية بالكليّة، ولم تنتبه لخطورتها ولم تعمل لدراسة متطلباتها وشروطها الضرورية لكي يستحق الحزب السوري القومي الاجتماعي ان يكون فعلا “حركة الشعب العامة.”
الإدارة والسياسة والحرب
هل عمل سعاده لكي يصبح حزبه حركة الشعب العامة، وهل استخدم في ذلك الإطار المنوه عنه سابقا. الجواب السريع هو نعم، طبعا. لقد عمل سعادة، اقله بين الأعوام 1932-1938 من ضمن الإطار الثلاثي المذكور هنا وقد استفضنا في كتاب إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية، انطون سعادة نموذجا -1 في وصف التفاصيل المرافقة لتلك المرحلة، في قسم كامل من الكتاب، والتي نلخصها هنا بما يلي:
- بناء قاعدة سرية من الشباب السوري الواعي والمنضبط والمثقف من مختلف المناطق السورية خلال ثلاث سنوات العمل السري 1932-1935، بلغ عدد أعضائها عند انكشاف الحزب حوالي ألف عضو. (إدارة)
- طلب المواجهة مع المستعمر وعملائه في المحكمة الاولى بعد انكشاف الحزب ومن ثم في “أيام الحزب” في كل من صافيتا وعمّاطور وبكفيا. (حرب)
- إجبار المستعمر على طلب هدنة (سياسة) قام خلالها الزعيم بترميم الاوضاع الداخلية الناجمة عن الاعتقالات، وبنى على المكاسب السياسية فأصدر مجلة النهضة، وأنشأ فروعا جديدة للحزب نتيجة المكاسب من الحرب المعنوية التي شنها والتأييد الشعبي الذي حصل عليه.
- عاد الى شن الحرب من جديد عبر مقالاته في النهضة (الأحزاب الببغائية) ونقده لحديث البطريرك الماروني، وهكذا دواليك لحين مغادرته الوطن سنة 1938.
والجدير ذكره هنا ان المناطق التي أقام فيها سعادة احتفالات هجومية كبرى، خلال ثلاثة أشهر فقط، كانت مناطق يمكن وصفها بمناطق إقطاعية مذهبية او عائلية تأتمر بأمر الانتداب، سرعان ما استقطبها سعادة في كل من الساحل الشامي، والشوف والمتن، وأصبحت خزانا يرفد الحزب بالأعضاء الصلبين، كل هذا لتكون حركته فعلا حركة عامة تعم مختلف المناطق والفئات الشعبية.
كيف نتمثل إطار إدارة الاستراتيجية عند سعادة؟
الشكل ادناه يمثل الإطار ويشرح العلاقة بين اضلاعه، وقد سمّيناه نموذج النمو والتجدد المستدام تحديدا بسبب هذه العلاقة. فبعد كل مواجهة، هناك ترميم وتعلّم من الدروس والاختبارات، ينتج عنه تطوير في الإدارة، وفي أساليب المواجهة، وهكذا دواليك
ملاحظات على الإطار
الإدارة هي الأساس. إنها فن وضع جميع موارد المؤسسة وطاقاتها في خدمة غايتها بأكثر فاعلية وأقل كلفة؛ “السياسة هي فن تحقيق الاغراض القومية”؛ الحرب هي مواجهة مع الخطم بغية القضاء عليه او اجباره على الاستسلام. أما فيما يتعلق بالعلاقة بين أطراف الإطار فيمكن لنا القول إن الإدارة والسياسة هي لمنع الحرب؛ وإن الحرب والإدارة هي لخدمة السياسة، وان الإدارة والسياسة والحرب كلها في سبيل تحقيق غاية الحزب. كذلك نضع قاعدة ان الإدارة للإدارة هي موت بطيء؛ السياسة للسياسة هي منافع خاصة متصارعة تؤدي الى شرذمة المؤسسة؛ أما الحرب للحرب، فانتحار.
خلاصة
إن دراسة سعاده تختلف عن مجرد قراءته. ودراسته تحتاج الى مناظير علمية تؤطر البحث. من هنا، فمع انه لم يقل “إن الإدارة والسياسة والحرب” هي الإطار الذي به تدار استراتيجية الحزب، فإنها عمليا، ولأي اختصاصي في الإدارة الاستراتيجية، تشكل فعلا هذا الإطار. بالتالي، فمن يدرس سعاده من منظور علم الاجتماع او علم المناقب والأخلاق او الفلسفة او السياسة، سوف يجد من الجواهر ما يفيد دراسته كما يفيد المجتمع في شكل عام.
في الحلقة القادمة: حركة الشعب العامة.