“هناك عقد بين الدولة والمواطنين- تم انتهاك هذا العقد. حكومة إسرائيل لم توفر الحماية لمواطنيها”.
(الوزير وعضو المجلس الأمني، يسرئيل كاتس، في اليوم الثامن من معركة طوفان الأقصى)
ليس لدينا أعداداً دقيقة بعد عن عدد الإسرائيليين الذي غادروا أو ينوون مغادرة إسرائيل نتيجة معركة “طوفان الأقصى”، ولكن لدينا بعض المعلومات التي يمكن منها استقاء الاتجاه العام. فقبل شهرين تقريباً من اندلاع المعركة، نشرت صحيفة Times of Israël مقالاً تقول فيه إن 28% من الإسرائيليين يفكرون بمغادرة دولة الاحتلال بسبب الفوضى المرافقة للتغيير القضائي الذي حاوله نتنياهو. منذ اندلاع المعارك، اتصل حوالي عشرين ألف أمريكي يعيشون في الأراضي المحتلة بدولتهم (معظمهم يحمل الجنسية الإسرائيلية وبعضهم من أصول فلسطينية موجودون في غزة) طالبين المساعدة. ومع أنه يمكن تسجيل انخفاض في عدد المغادرين للكيان الصهيوني بعد الأحداث، فإن هذا عائد لإلغاء معظم شركات الطيران الغربية رحلاتها إلى مطار بن غوريون. في المقابل، يسجل العاملون في مطار الملكة عالية في الأردن، نسبة عالية من الإسرائيليين الذي يغادرون هذا المطار مؤخراً. في هذا المقال، تتابع الفينيق ملف إسرائيل من الداخل، مركزة على موضوع الهجرة العكسية. (الفينيق).
عادت معركة “طوفان الأقصى” إلى فتح باب الهجرة العكسيّة من إسرائيل، بسبب إدراك العديد من مُستعمريها لفقدان الأمن الشخصي والجمعي والضرر الذي لحق بهم، حيث باتوا غير قادرين على البقاء في إسرائيل. سيقوم هذا المقال بفحص تاريخ الهجرات العكسيّة وأسبابها، ومن أهم الأسباب، عدم قدرة إسرائيل على مواصلة تأمين الأمن لمستعمريها وتداعيات ما بعد المعركة المذكورة.
إلى جانب احتلال الأرض واستعمارها شكلت الهجرات اليهودية إلى فلسطين، سواءً المنظمة أم الفرديّة، ركناً مركزيّاً في ثنائية احتلال فلسطين واستعمارها منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى يومنا الراهن. في نفس الوقت، عاد العديد من المهاجرين اليهود إلى أوطانهم الأصليّة أو هاجروا إلى دول أخرى كالولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وبريطانيا، وألمانيا.
من أجل تشجيع الهجرة، استخدمت إسرائيل العنف ضد مؤسسات أجنبية ويهود آخرين لتشكيل بيئة معادية لهم ودفعهم للهجرة إلى فلسطين، مثل التفجيرات التي قامت بها إسرائيل ضد مؤسسات يهودية في العراق في 1950- 1951، ومحاولة تفجير سفارات ومؤسسات أجنبية في مصر في إطار ما بات يعرف اليوم بـ”فضيحة لافون” سنة 1956.
أعطت الحركة الصهيونية وإسرائيل مفهومي الهجرة والهجرة المعاكسة صفات قيميّة- وصفت الأولى “علياه”، أي الصعود أو القدوم أو السمو، أما الثانية فقد وصفتها بالـ”يريدا”، أي النزول أو الهبوط. وتم وصف المهاجرين الوافدين بالطلائعيين (حالوتسبم) والأقوياء، أما المهاجرين المغادرين، فقد تم وصفهم بسقط المتاع.
تنتهج السلطات والدوائر الإسرائيليّة أسلوباً ملتبساً في تعريف المهاجرين إليها ومنها، لأنهم يواصلون الاحتفاظ بالجنسية وجواز السفر الذي اكتسبوه حال وصولهم إلى أرض فلسطين من خلال إجراء بسيط يتطلب تعبئة الاستمارات فقط، وذلك وفقاً لقانوني العودة من سنة 1950، والجنسية من سنة 1952. أما فيما يخص الهجرة المعاكسة فإن إسرائيل تتبنى قانون الأمم المتحدة وترجمته – كل من سكن في إسرائيل لمدة عدة أشهر وغادرها لمدة سنة أو أكثر. يشمل هذا التعريف المُستعمرين الذين يعملون خارجها لفترات مختلفة وأيضاً من هاجروا منها إلى غير رجعة.
بلغ عدد المهاجرين اليهود من إسرائيل وفقاً لتقرير دائرة الإحصاء المركزية سنة 2020- 756 ألفاً ، ويشمل هذا الرقم الذين هاجروا منها لمدة تمتد من سنة واحدة إلى سنوات عدة ويحتفظون بجنسيتهم وجواز سفرهم، وقاموا بزيارة إسرائيل أيّاماً عدة في السنة الواحدة، مثل الأكاديميين الذين يعملون في شركات دوليّة أو عابرة للقارات ويواصلون دفع الضرائب والتأمين الصحيّ وفقاً للاتفاقيات المتبعة بين إسرائيل والدول التي يعمل ويسكن فيها هؤلاء الأكاديميون والخبراء باختصاصاتهم المختلفة، كي يحافظوا على حقوقهم بالعلاج ومخصصات الشيخوخة، والدراسة في المدارس والجامعات لهم ولأبنائهم. ويتضمن التقرير هجرة آلاف عدة سنويّاً إلا أنه لم يتمكن من إحصائهم. لذا- وحسب التقرير- يبلغ عدد المهاجرين نحو 900 ألف. ويبدو أن الآلاف غير المسجلة هم الذين غادروا إسرائيل بجوازات سفر الدول التي هاجروا منها إلى إسرائيل. فإسرائيل تسمح لمواطنيها بجمع أكبر عدد من الجنسيات، بل تشجعهم على ذلك.
ترافقت الهجرة المعاكسة مع الهجرة إلى فلسطين لأسباب عدة أبرزها- عدم التأقلم اجتماعيّاً، وسياسيّاً وبيئيّاً؛ وخلافات مجموعة مع أخرى لأسباب عائلية كالزواج والمرض، وأسباب اقتصاديّة، والهروب من السلطات العثمانية والانتدابيّة لمخالفتهم القوانين، ولأسباب أمنية خوفاً من المقاومة العربيّة، وما إلى ذلك من أسباب، مثلاُ، عاد نحو 40% من مهاجري الهجرة الأولى (1904- 1914). بينما يرجح المؤرخ يشوع كنييل من جامعة بار- إيلان أن نسبة الذين عادوا ترواحت ما بين 80- 90% من المهاجرين. وغادر فلسطين من الهجرة الرابعة (1926- 1928) 14 ألفاً. ويرجح مئير مرجليت في أطروحة الدكتوراة عن الهجرة المعاكسة التي قدمها لجامعة حيفا سنة 2004 أن عدد المستعمرين الذين غادروا فلسطين أثناء الانتداب البريطاني يتراوح من 60- 80 ألفاً لأسباب أمنية نتيجة لتصاعد المقاومة العربيّة في فلسطين. كانت عودة بعض العائدين الأول مأساوية، مثل مناحيم ألكيند الذي عاد إلى الإتحاد السوفياتي سنة 1926 واختفت آثاره سنة 1937 (…).
بعد إقامة إسرائيل مباشرة، ما بين 1948- 1951 ، غادرها نحو 60 ألفاً غالبيتهم من المهاجرين الجدد- كما يؤكد الديموغرافي موشي سيركين (1928- 2016)، الذي شغل منصب دائرة الإحصاء المركزيّة (1972- 1993)، وذلك لأسباب سوء الوضع الاقتصادي والظروف الأمنية نتيجة حرب 1948. ويشير موشي ألطمان من معهد الإستراتيجيّة الصهيونيّة أن معدل عدد المهاجرين من إسرائيل منذ سنة 1948- 1980 بلغ 20 ألفاً في السنة. بينما الهجرة إليها كانت أكبر.
سببت كل من حرب أكتوبر سنة 1973 والعدوان على لبنان سنة 1982 ارتفاعاً حاداً في نسبة المهاجرين من إسرائيل، حيث تساوى عددهم مع عدد المهاجرين إليها سنة 1974، لأن هاتين الحربيّن أثارتا الشكوك حول قدرة الدولة للدفاع عن أمن مُستعمريها. وقد دفع ازدياد أعداد المهاجرين من إسرائيل بعد حرب 1973 وما تلاها، رئيس الحكومة في حينه، يتسحاك رابين، عشية ذكرى تاسيس دولة إسرائيل سنة 1976 لوصفهم بـ”سقط المتاع”. كما وصفتهم صحيفة (دفار) الهستدروتية في السنة ذاتها بـ”الهاربين من المعركة”. أما رئيس الدولة، حاييم هيرتسوج، والد الرئيس الحالي يتسحاك هيرتسوغ، فقد قال عنهم سنة 1984 بعد تزايد الهجرة على إثر العدوان على لبنان: “الهجرة العكسيّة تعبير عن مرض يعشش فينا، أرجو ألّا يكون خبيثاً”. وكما يقول المثل العبري، مياه كثيرة جرت في نهر الأردن منذ تلك الأيّام إلى يومنا الراهن؛ أي أن الموقف من المهاجرين من إسرائيل تغيّر كثيراً، فلم يعودوا سقط المتاع، بل شاطرين.
مع بداية تسعينيات القرن الماضي وتوسع العولمة – ‘الانفراجات’ الدوليّة في كل من جنوب أفريقيا، مؤتمر مدريد، إنهاء المقاطعة العربية واتفاقيات أوسلو، أصبحت عند الإسرائيليين أسباب أخرى للهجرة منها بشكل مؤقت أو دائم. فقد فتحت الشركات الدولية المختلفة أبوابها للعمالة الإسرائيلية الماهرة في مجالات المعلوماتية والإدارة والطبّ وما إلى ذلك من مهن تتطلب تأهيلاً على مستوى عالٍ. فالمجموعات الإسرائيلية التي قامت بمثل هذه الخطوة كانت تبحث عن مستوى حياة أفضل ككل المهاجرين الكلاسيكيين. وأسهم كثيراً بازدياد عددهم، كل من غلاء المعيشة وأزمة السكن الحادة والباهظة جداً في المدن الكبرى مثل تل أبيب، وحيفا، والقدس. ومنذ تلك الفترة لم تعد الأبحاث الإسرائيلية تهتم كثيراً بأعدادهم فقط، بل بالتغيّرات التي طرأت على هويتهم وقدرتهم على جذب الاستثمارات في قطاعي المعلوماتيّة والمال.
عادت فكرة التهديد بالهجرة من إسرائيل إلى الصدارة مع تشكيل الحكومة الحاليّة الألترا يمينيّة وقيامها بالتغييرات الانقلابية في الجهاز القضائي الإسرائيلي الذي يعمّق ويكثف من حضور القيّم الدينيّة في الحياة العامة في إسرائيل على حساب الليبراليّة التي كانت سائدة وإضعاف القضاء ومبدأ فصل السلطات. فالطغمة الماليّة العسكريّة التي تصدرت الحراك الجماهيري للدفاع عن مصالحها قبل معركة “طوفان الأقصى” هي التي تهدد بالهجرة. يُضاف إلى هذه القضيّة، قضية التصعيد الأمني في الضفة الغربية، حيث بات العديد من طرقاتها غير آمنة لتنقّل المُستوطنين. ونتيجة للتصعيد المذكور والإصلاحات – كما تصفها الحكومة – ازداد عدد الحاصلين على جوازات سفر أجنبية بـ 13% مقارنة بالفترة المقابلة من العام المنصرم. في المقابل وحسب المعطيات الصادرة عن وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية، والوكالة اليهودية – انخفضت نسبة المهاجرين إليها من أوروبا وأمريكا بنحو 20% مقارنة بالفترة المثيلة من السنة الفائتة.
وبما أن التاريخ هو خير معلم لفهم التحولات التي طرأت ومن شأنها أن تطرأ على سلوك الجماعات والأفراد، يمكن القول إن معركة “طوفان الأقصى” التي نقلت المعركة إلى داخل حدود دولة إسرائيل ولأول مرّة منذ تأسيسها سنة 1948 وألحقت أذى وأضراراً بالغة بمستعمريها في منطقة النقب الغربي، ووسط البلاد والجليل الأعلى. فمن شأنها أن تعيد نتيجة التجارب التاريخية التي غادر فيها اليهود فلسطين نتيجة لانعدام أمنهم الشخصي في فترة الإنتداب البريطاني، ما بين 1948- 1951، وحرب أكتوبر 1973 والعدوان على لبنان 1982 (كما جاء في هذا المقال). وإذا فهمنا ما قاله أوري كرمل رئيس جمعية “إرتس-عير/ بلاد- مدينة” التي تقوم بتوفير فرص العمل والتوظيف في النقب بأن إسرائيل غير مهيأة لاستيعاب أعداد كبيرة من الفارين، لعدم جاهزيتها لذلك، إلى جانب تصاعد التوتر الأمني وتفاقم الأزمات الداخلية بإسرائيل على خلفية التغييرات في الجهاز القضائي و”طوفان الأقصى”.
بكلمات أخرى: يمكن القول إن تضافر عوامل التغييرات القضائية، والتصعيد في الضفة الغربيّة، ونتائج “طوفان الأقصى” ستدفع الكثير من اليهود لمغادرة إسرائيل إلى أوطانهم الأصلية أو الهجرة إلى دول أخرى. وهنا نستحضر التقرير الذي أعدته الـ (CIA)، بين سنتي 2015 و2016، بأن أيّة مواجهة عسكرية محتدمة مقبلة مع إسرائيل (كالتي تعايشها الآن) ستدفع بالمستوطنين اليهود إلى الهجرة من إسرائيل والانسلاخ عنها بشكل نهائي… لننتظر ونراقب ما سيحصل في الأشهر والسنوات القادمة.