أين نجحت جيوش الثورات وفشل جيش الثورة العربية الكبرى؟
محمد الحصني
كانت جيوش الثورات المعاصرة، والمشكّلة حسب ظروف كل ثورة، هي الحامي للنظام الوليد من الاضطراب الاجتماعي المرافق للثورة ومن الثورة المضادة والخطر الخارجي. ورغم أن المقارنة بين جيش الثورة العربية وتجربة أمثاله من جيش الثورة الفرنسية وجيش الثورة السوفيتية وجيش التحرير الشعبي الصيني والحرس الثوري الإيراني غير منصفة، إلا أنها تسمح لنا أن نطرح السؤال عن فشلنا بينما نجح الآخرون.
المقارنة بين تجربة جيوش الثورات الناجحة بحد ذاتها، لا تعطنا وصفة دقيقة لعلة نجاحها، فهي تتناقض ببعض أخطر تفاصيلها من طريقة التحول إلى مؤسسة محترفة (جيش نظامي)، مروراً بعلاقتها مع المجتمع وموقفه من التغيير الجاري وصولاً إلى طبيعة علاقتها القانونية مع مؤسسات الدولة الجديدة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. إلا أنها تُجمع بخطوطها العامة على مقدرتها على حماية الحماس العقائدي المرافق لولادة نظام جديد. ومن هنا يحق لنا أن نتقصى سبب فشل جيش الثورة العربية السريع، في حماية كيانه الوليد، الدولة السورية الفيصلية.
تأسيس جيش الثورة بعد اندلاع الثورة والبداية المرتجلة!
أخذ الشريف حسين ومنذ اليوم الثاني لبداية الثورة (متأخراً جداً) يلح على الإنكليز ليبعثوا إليه بضباط وجنود لمتابعة أعمال الثورة التي بدأت بقوات بدوية عاجزة! وصلت القافلة الأولى في 2 آب 1916م من ثمانية ضباط جيش وجميعهم من ضباط المدفعية برتب مختلفة و 136 صف ضابط وجندي مدفعي. كان جميع هؤلاء أسرى لدى الإنكليز من معاركهم ضد الدولة العثمانية في مصر والعراق وجميعهم إما شاميين* أو عراقيين أو فلسطينيين أو لبنانيين.
كانت فكرة تقسيم الجيش إلى ثلاثة جيوش؛ جيش متحرك نظامي بقيادة الأمير فيصل وقائده العام جعفر العسكري- لتخريب خطوط المواصلات والاندفاع نحو الشمال- وجيشان غير نظاميان ثابتان للحصار بقيادة الأمير علي والأمير عبد الله، من أفكار الفريق عزيز علي المصري الذي عين وزيراً للدفاع في حكومة الشريف حسين.
مع وصول جيش الثورة النظامي والمتحرك إلى العقبة، تم تقسيمه إلى فرقتين منفصلتين ولكل فرقة لوائين ولكل لواء فوجين أو ثلاثة ولكل فوج ثلاثة سرايا من مشاة ورشاش بالإضافة إلى لواء خيالة وسرية رشاش ولواء مدفعية لعدد محدود من المدافع المتنوعة. كان هذا التنظيم من تنفيذ اللواء جعفر العسكري ورئيس أركانه العقيد نوري السعيد، وهو الجيش الذي تابع أعماله حتى وصوله إلى شمال حلب وإعلان الهدنة بتاريخ 11تشرين الأول 1918م.
يحسب له ويحسب عليه:
1- لم يكن في جيش الثورة الشمالي إلا الضباط والجنود ولم يوجد فيه بدوي واحد، وجميع ضباطه من داخل حدود سوريا الطبيعية وليس بينهم سوى ضابط واحد من اليمن وللمفارقة كان اسم هذا الضابط “سري” كأنه يلخص ملفات المرحلة القادمة.
2- لم يخض جيش الثورة العربية الحرب على أساس حرب العصابات بل على أساس الحرب التقليدية رغم هشاشة وارتجال تشكيله. هنا يخالف جيش الثورة العربية مقدمات جيوش الثورات (الروسية، الصينية، الايرانية، الكوبية) التي عرفت مقدمات حرب العصابات التقليدية. طبعاً إذا لم نقل ان طريقة تشكيله بدت وكأنه جيش تشكل تحت الطلب!
3- جميع من التحق بهذا الجيش النظامي إما أسرى عند الإنكليز أثناء حروبها مع الدولة العثمانية، أو هاربين من الجيش العثماني قبل وأثناء تقدم جيش الثورة، أو أسرى من المعركة الجارية وقد جرى تنظيمهم داخل بنية الجيش وهذا الأسلوب هو الأسرع في خلق الدود داخل الخل.
4- عدد هذا الجيش النظامي حسب تقديرات المؤرخين ثمانية آلاف. استطاع أسر 35 ألف من جنود الدولة العثمانية حسب تقديرات الانكليز وهذا يدل على درجة ضعف الدولة العثمانية وأيضاً على عدم التقليل من شأن الجيش المشكل وحماسته.
5- الصنف الثاني من جيش الثورة هم رجال العشائر الذين لم يسلحوا جيداً ولم يكن لهم تشكيل خاص ولا قيادة من الضباط ولا مخصصات ويقاتلون كقوة مساعدة.
6- إن طبيعة مهمة جيش الثورة العربية في قتال الدولة العثمانية، وما لها من هيبة دينية واجتماعية في نفوس مواطنيها ذلك الوقت، تدل على وجود النفسية الجديدة المتحدية التي تخلصت من الأفكار المتعلقة بأوهام الخلافة والسلطنة وعلاقتها بالإسلام. وهذا يحسب بين العوامل النفسية للمقاتلين في جيش الثورة ذلك الوقت.
لا جيش قوي ولا جيش مُجرَب .. والقرار المصيبة
دخل الأمير فيصل دمشق 3 تشرين الأول 1981م وعيّن الفريق رضا الركابي (وهو من قادة الجيش التركي الباقي في دمشق) حاكماً عسكرياً وقام بدوره بتعيين مدراء لمصالح الدولة، والذي يهمنا هنا هو “شخصية مدير الشورى الحربية ياسين الهاشمي الذي ارتكب الخطأ الأول والقاتل لكيان جيش الثورة عندما اتخذ القرار بإلغاء جيش الثورة وتشكيل جيش جديد ليضم في صفوفه (متطوعين) الفارين من الخدمة العسكرية العثمانية والضباط العائدين من الجيش التركي معللاً قراره بعدم جواز وجود جيشين.” رغم أن الكثير من تجارب الثورات عرفت وجود جيشين ولكل منه حيز وجود وعمل ومهمات، مثل الصين في جيشيها الأحمر والأزرق والثورة الإيرانية في جيشها النظامي وما يسمى الحرس الثوري، فقد كان قرار إلغاء جيش الثورة قراراً متسرعاً حيث تقتضي مصلحة الدولة الوليدة ذلك الوقت الحفاظ على العناصر المقاتلة والقيام بفرز هادئ لهم وتصنيف للعائدين الجدد وخاصة أنه كان يوجد بينهم خيرة الضباط حماساً واندفاعاً ومنهم الشهيد يوسف العظمة وفوزي القاوقجي.
لم يتم إلغاء جيش الثورة بل تم توزيع ضباطه على ترتيب جديد، وأُدخلت إلى صفوفه العناصر الجديدة وسرح من أفراده من أراد التسريح. دمر هذا القرار روح الجيش المقاتل لعدة أسباب، منها الفصل بين رفقاء السلاح، كما أن عقلية الضباط العائدين بمعظمها كانت تعتبر الضباط الثائرين خونة وكفار لأنهم هاجموا دولة السلطان والخليفة ومعظمهم كان متأثراً بالدعاية الفرنسية التي تقول أنه قريباً ستحتل فرنسا البلاد وأن على فيصل أن يعود بخيمته إلى الحجاز، والكثير منهم كان فاراً من الخدمة العسكرية لسنين طويلة مع ما يرافق هذا النمط من الحياة من رذائل. إن شعور الغيرة كان حاضراً بينهم من ضباط الثورة الذين مُنحوا رتباً وترفيعات نتيجة لبطولاتهم أثناء حرب لم يكن لهم بها أي دور.
بالمختصر لم يبقى في البلاد لا جيش قوي مُجَرَب ولا جيش جديد يستحق اسم جيش، جماعة غير متجانسة أو متفاهمة ولا يجمعها هدف والأهم لا يجمعها الحماس للعهد الجديد.
الضابط صبحي العمري في كتابه (ميسلون نهاية عهد) وهو من الملتحقين بجيش الثورة في معاركها الأولى، يتهم ياسين الهاشمي بعدم تحمله لفكرة وجود جيشٍ لثورةٍ لم يكن هو شخيصاً سبباً في انتصاره على الأتراك، ويتهم الضباط العائدين من تركيا أنهم كانوا خلف هذا القرار، ويعترف أن إلغاء هذا الجيش لم يكن بإيعاز من الفرنسيين والإنكليز ولكنه كان بالتأكيد بموجب إرادة خفية منهم لأنهم أكثر من يعرف مقدار خطورة هذا الجيش.
مجتمع امتياز الاعفاء أو مجتمع شقاء الخدمة العسكرية
بعد تنبه رجال الدولة لفشل قانون التطويع اتخذ فيصل قرار التجنيد الإلزامي في 21 كانون الأول 1919م للرجال من سن العشرين إلى الأربعين وبمدة خدمة ستة شهور وبدل 30 جنيه. فشل قانون التجنيد كما فشل قبله قانون التطويع، لأسباب منها مطالبة الكثير من المناطق التي كانت معفية من الخدمة العسكرية أثناء الدولة العثمانية باستمرار هذا الامتياز، كما أن سمعة الخدمة العسكرية ذلك الوقت وما يرافقها من شقاء وإهانة نفّرت عموم المجتمع من تحمله مسؤولية الدفاع عن العهد الجديد.
سجل اسمك في الدفتر بين أصدقاء فرنسا
مختصر الدعاية الفرنسية ذلك الوقت، أن العهد الفيصلي ذاهب إلى غير رجعة ومن أراد من الضباط أو السياسيين أن يحفظ لنفسه موقعاً في العهد القادم ان يسجل نفسه صديقاً لفرنسا.
يذكر صبحي العمري في مذكراته (ميسلون .. نهاية عهد) العرض الذي قدم له ثلاث مرات من شخصيتان أحدهما هو الملازم سعد الله في حلب والثاني هو نقيب لم يصرح عن اسمه. لاحظ المؤلف مقدار الأموال التي يصرفها الأول باستهتار وعند مسائلته أخبره أنه يستطيع أن يحصل على أكثر مما يحصل عليه هو شخصياً (50 جنيه شهريا) من الفرنسيين كونه يملك أسرار شفرة الأمير ناصر الذي كان المؤلف مرافقاً شخصياً له. والعرض الثاني جاء في دمشق على لسان نقيب في الجيش، حدثه عن اقتراب انسحاب الإنكليز ونهاية العهد الفيصلي وضرورة أن يؤمّن لنفسه مكاناً في العهد القادم لأن الفرنسيين يجهزون كل شيء ويدفعون مالاً لكل متقدم يثبت إخلاصه لهم وأنه شخصياً توسط لفلان وفلان. وعند سؤاله عن كيفية قيام الأمر أخبره أن التسجيل يتم في دار المعتمد الفرنسي كوسي فأخبره العمري بموافقته واتفقا على موعد. ذهب المؤلف مع أحد أصدقائه الخواص إلى منزل المعتمد في دمشق وهناك اندهش سكرتير المعتمد، وهو مترجم دمشقي، عندما قدم النقيب المؤلف لخطورة مسؤوليته في الدولة ووسط ارتباكه وترحيبه عدّد له فوائد صداقة فرنسا للسوريين ودلّل بذكر أسماء بعض الضباط ممن سجلوا أسمائهم عنده في عداد أصدقاء فرنسا وأن الكولونيل سيكون مسروراً وهو يراه قد أصبح منهم. فهم المؤلف أن الكولونيل في بيروت ويعود في مساء نفس اليوم، وعيّن موعد جديد للاجتماع معه. خرج المؤلف من الاجتماع وسجل هو وصديقه أسماء الضباط الذين ذكرهم المترجم الدمشقي ورفع القائمة إلى الأمير زيد الذي كان ذلك الوقت نائباً لفيصل لوجوده في أوروبا. يعتقد المؤلف أن لا إجراءات اتخذت بحق الأسماء المذكورة، ويذكر أن الأسماء التي ذكرت بالفعل أصبحت في عداد الجيش الجديد المشكل بعد الاحتلال الفرنسي لسوريا.
من غير المنصف أن ما ذكر أعلاه كان السبب الوحيد لهزيمة ميسلون. إن مقارعة فرنسا وبريطانيا العريقتان بالسياسة والقوة مقابل عقول ونفوس كانت تتنفس كالطفل الوليد والمعرض لمخاطر الحياة تجعل النصر في ميسلون مجازفة شبه مستحيلة.
إن تحول جيش الثورة إلى قوة عسكرية محترفة مع مخاطر فقدانه لحماسه الثوري كان يعوض بأجهزة الحزب كالتجربة السوفيتية أو كاريزما القائد كالثورة الفرنسية والصينية أو التحول إلى مؤسسة مغلقة بطابعها الخاص كالحرس الثوري الإيراني. بينما كان مقدمة تأسيس جيش الثورة الارتجال، ولم يقم قادته الفعليون بوضح خطوط وقواعد لحماية هذا التشكيل المرتجل والتي تبين مقدرته على النجاح، ليكون قاعدة رافعة تقرر توسعها بطريقتها الخاصة وظروفها الطارئة.
استطاعت جيوش الثورات الناجحة الخلاص من تسلط عائلة أو قبيلة أو عرق أو جماعة مغلقة إلا بحدود قاعدة محددة متفق عليها. هو أمر لم ينجح فيه جيش الثورة العربية، حيث استند الداعون إلى الثورة إلى شخصية الشريف حسين الدينية وهو بدوره عمل على بناء دولة بذات المفاهيم التي احتضرت فيها الدولة العثمانية. بوضوح أشد، خسر الداعون إلى الثورة فرصة انطلاقها على أحد تخوم سوريا الطبيعية لحساب انطلاقها من بيئة جغرافيا لها حساباتها ووضعيتها الدولية الخاصة فليس ثمة من لغز في السماح لدولة آل السعود بالقضاء على دولة الحجاز (الشريف حسين) بعد انتفاء الحاجة لبقاء دولته والتي تمثلت بالتفاوض لانطلاق الثورة والمساومات التي رافقتها.
لم يملك جيش الثورة العربية أيديولوجيا (وكانت بحدودها القصوى الرغبة في خلاص العرب من الأتراك دون تحديد لمعنى الخلاص والاستقلال) وتكتل تحت هذا الاتجاه نخب ثقافية (تم إعدام بعضها على يد الأتراك) وعسكرية وعائلية، محدودة التأثير على مجتمع اعتاد جمود النظام الملي وامتيازاته لقرون مظلمة وطويلة، فكانت الجمعيات والأحزاب التي أسستها نخب ذلك الوقت غائمة المبادئ والنهج بدون الإحساس لضرورة وضع خطة مضادة لعلنية مطامع فرنسا وبريطانيا اللتان وضعتا خطط مغايرة لوعودهم، وبالتالي كان اللجوء إلى مبادئ “ولسن” من جهة حقوق الأمم وبرقيات الاحتجاج لعصبة الأمم عمل جسد السياسة من أجل السياسة وبهلوانات صحفية وسياسية وردود فعل لا وزن لها أصابت نفسها ومجتمعها بضياع الدولة الناشئة.
اعتمد المقال على كتابي:
ميسلون.. نهاية عهد، للمؤلف: صبحي العمري، ط1 1991م رياض الريس للنشر.
مذكرات تحسين قدري 1892-1986م المرافق الأقدم للملك فيصل الأول، ط1 2018م الأهلية للنشر.