أخذت مسألة تصويت المملكة البلجيكية لصالح المملكة العربية السعودية في لجنة حقوق المرأة في منظمة الأمم المتحدة أبعاداً لا يستهان بها في الحكومة البلجيكية، قام على أثرها حزب الخضر المعارض باستجواب وزير الخارجية البلجيكي يوم الثلاثاء 2 أيار عبر لجنة تحقيق في الشؤون الخارجية خُصصت للتأكد من صحة تصريحات رئيس الوزارء شارل ميشال ووزير خارجيته ديديه ريندرز من أن الحكومة البلجيكية لم تكن على علم مسبق بعملية التصويت
وبالرغم من تصريحات المذكورين أعلاه وأسفهما لما حصل، فإن وجود مراسلات إلكترونية بين السفارة البلجيكية في نيويورك ووزارتها في بلجيكا، والتي حصل البرلماني البلجيكي Benoit Hellings من حزب الخضر على نسخة منها، تؤكد عدم صحة ادعاءات الحكومة. فالمراسلات تبين بوضوح أن القرارات اتخذت مسبقاً في مقر وزارة الخارجية البلجيكية، وأن الولايات المتحدة الأميركية عمدت إلى طلب التصويت لصالح ثلاث دول في ثلاث لجان مختلفة
من المستحيل ألا تكون وزارة الخارجية البلجيكية على علم بترشيح المملكة العربية السعودية لشغل منصب عضو في لجنة حقوق المرأة في الأمم المتحدة، شأنها شأن كافة وزارات الخارجية في العالم التي تحصل على مذكرات رسمية من سفارات الدول المعتمدة لديها طلباً للدعم قبل أشهر عديدة من التصويت. ومن البديهي أيضاً أن يتم البحث في أمر الدعم من عدمه والتصويت قبل اقتراب الموعد، وبالتالي إبلاغ الجهة المختصة بالقرار، ونعني بها هنا السفارة البلجيكية في الأمم المتحدة. ولا يمكن بأي شكل من الأشكال حصر مسألة التصويت بتوافق المصالح بين البلدين. إذ أعتقد أن هذا يعتبر تقليصاً من قدر الحكومة البلجيكية، لأن المسألة أكبر بكثير من قضية تصويت أو سوء فهم أو عدم معرفة مسبقة.
المملكة البلجيكية هي أولاً وآخراً دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. والسياسة التي تتبعها تتوافق مع التوجه الأوروبي العام. وهو توجه حذر يحافظ على المصالح الأوروبية العامة محلياً وإقليمياً ودولياً. وما الحزب الليبرالي البلجيكي الحاكم إلا عنصر جيد من العناصر المدافعة عن أوروبا الحالية بتوجهاتها وسياساتها ومواقفها.
التوجه العام لأوروبا هو الأمن وسلامة المواطن اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، تعمل عبره على إيهام المواطن بأهمية وحدتها، وبقدرتها على اتخاذ وتبني القرارات كقوة عظمى ذات دور فعال على الساحة العالمية. التوجه العام لا غبار عليه إلا عندما نضع نصب أعيننا الخوف الأوروبي من التفكك الذي يهدد به تارة اليمين العنصري المتطرف، وتارة اليسار القلق من السياسة الاقتصادية الليبرالية. كما لا يمكن أن نتغاضى عن التهديدات الاستراتيجية للقوتين العظميين: أميركا وروسيا. فأوروبا اليوم بين المطرقة والسندان. بين تلبية حاجات المواطن من جهة وعلى جميع الأصعدة، وبين التصدي للسياسات العالمية من تحالفات وضغوطات.
المملكة البلجيكية كتلميذ أوروبي مجتهد، تحاول بكل ما أوتيت من كد وجهد أن تبرهن للدول الأوروبية برمتها أنها تعمل على تطبيق السياسة الأوروبية. فهي تقوم بحصد كافة المعلومات التي من شأنها أن تهدد الأمن الداخلي والأوروبي العام. فكانت أولى تحركاتها الأمنية هي زيارة إسرائيل والتعاقد مع الأمن الإسرائيلي لتأمين حماية المطارات ومحطات القطارات وما شابه والتدريب على آخر التقنيات الإسرائيلية في هذا المجال، فإسرائيل اشتهرت بتقنية التعرف على “الإرهابيين” من وجوههم. هذا الأمر لا يخفى على أي مسافر عند دخوله المطار الدولي في بروكسل إذ يمكن له مشاهدة الضباط الإسرائيليين عياناً
ثانياً، كثفت لجنة التحقيق في الاعتداءات الإرهابية التي وقعت في 22 آذار من العام المنصرم أعمالها، وقامت باستجواب مدير المركز الإسلامي وإمام المسجد الأكبر في بروكسل، التابعين للمملكة العربية السعودية التي تموله، إضافة إلى استجواب السفير السعودي. فهي تشك بوجود سلفيين ووهابيين يقومون بتجنيد الشباب المسلم للقتال في سوريا، كما تشك بتبيض الأموال المخصصة لهذا الغرض. لذلك قررت إنشاء معهد لتدريب الأئمة، بالاشتراك مع جامعات بلجيكية، للعمل في الجوامع الإسلامية على أراضيها لكي يتبعوا “إسلاماً بلجيكياً” يحترم المجتمع الأوروبي وتطوره ويحترم القوانين البلجيكية. هذا الأمر يثير الكثير من الجدال حول صلاحية هذا الإسلام وقدرة الجامعات البلجيكية على أن تعطي دروساً في الفقه وتفسير القرآن.
إذاً من المفترض أن نكون أمام أزمة بين المملكة البلجيكية والمملكة العربية السعودية. إنما عندما نتابع عن كثب سير العلاقات بين البلدين، لا نرى أي تضارب يعكر صفوها. على العكس لم تتخذ المملكة البلجيكية أي قرار مثلاً حول منع بيع الأسلحة للسعودية، نزولاً عند طلب العديد من البرلمانيين في المعارضة، وهي تعرف تمام المعرفة أين تذهب هذه الأسلحة وعدد الضحايا المترتب عنها، بل فضلت الربح المادي على إغاثة الضحايا. كل ما قامت به هو رمي المسؤولية على الاتحاد الأوروبي في اتخاذ قرار الحظر الذي لم يصدر حتى الآن. كما لم تتخذ أي قرار بإقفال المركز الإسلامي في بروكسل، وهو الذي كثرت حوله البراهين بتصدير مقاتلين إلى سوريا أو على الأقل مرور مقاتلين عبره للتوجه إلى مناطق القتال. وآخر علاقة حب بين البلدين كانت التصويت لصالح السعودية في لجنة حقوق المرأة.
التوجه البلجيكي منطقي تماماً، ومفاده الصالح الأوروبي العام. الأمن وسلامة المواطن في الداخل، والاضطلاع بدور هام لتأمين المكاسب الاقتصادية والسياسية في الخارج. هذا ما يسمى بالتوازن الاستراتيجي. فالتوجه البلجيكي ليس مغايراً للتوجه الأوروبي لا بل على العكس فهو مواز ومتناغم. والأمثلة الأوروبية كثيرة في هذا المجال، آخرها المؤتمر الأوروبي لدعم سوريا في نيسان الماضي والمؤتمر الذي سبقه لدعم اليمن في آذار. إذ لم تتطرق أوروبا في أي منهما إلى دور الدول الخليجية في تأجيج القتال، بل اكتفت بأخذ المال والمنح الخليجية للمساعدات الإنسانية. فالتوازن الاستراتيجي يتطلب من جهة درء خطر المهاجرين عن أوروبا، بتقديم المساعدات الإنسانية لكي يبقوا في ديارهم، والإبقاء على العلاقات الحسنة مع الدول النفطية لما لهذه العلاقات من مكاسب خيرة ومثمرة على خزينة المال العام. والتوازن الاستراتيجي أيضاً يتطلب حنكة كبيرة قوامها الاضطلاع بدور إنساني في العلن، واتباع سياسة المكر والدهاء في مواجهة القوتين العظميين والتسابق إلى المكاسب.
السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل تستطيع أوروبا عامة وأية دولة أوروبية خاصة أن تستمر في سياسة المصالح؟ التباين الكبير في نوعية التوجه الأوروبي يعمل على تغذية المعارضة يميناً ويساراً. والخطر ما زال قائماً تجاه كل دولة أوروبية إذا لم تنهض أوروبا وتعي أن سياستها في التوازن الاستراتيجي ستؤدي بها إلى أن تصبح لقمة سهلة في أفواه الأقوياء ومهزلة سياسية بوادرها باتت على الأبواب. وحتى ذلك الوقت، فإن التصويت البلجيكي للسعودية منطق لا جدال فيه.
0 Comment
من المفيد جدا أن نطلع على مواقف الدول ألتي تدعي التقدمية والعلمانية داخل حدودها، وتأخذ مواقف غير مشٌرفة في الخارج، وخاصة علاقاتها بالدول حيث لا حقوق للمرأة، ولا حرية تفكير. هل من الممكن كتابة هذا المقال بالفرنسية والإنكليزية لكي يطلع عليه أجيالنا الصاعدة في أوروبا- شكرا وأنا بانتظار الأخبار عن تطور هذا الخبر
يجب أن يضع مواطنونا نصب أعينهم أن ما من صديق لنا ولقضيتنا سوى المواطنين أنفسهم. وكل من يتشدق ويدعي العمل لمساعدتنا وتقديم المساعدات إنسانية كانت أم عسكرية يحاول فقط إغراءنا بالوعود ثم يعمل بالخفاء لتأمين مصالحه الخاصة. إنه من واجبنا نحن، أبناء الوطن أن نعي أنه منذ القدم والمؤامرات تحاك ضد شعبنا وقد حان الوقت لنتحد ونقف في وجه كل اللعب السياسية. لقد حان الوقت أن نعمل لتأمين مصالحنا الخاصة وأن هذه المصالح ليست إلا مصلحة الوطن نفسه. أما بالنسبة للكتابة في لغات أجنبية، فإنه أمر هام سنحاول دراسته لما له من أهمية ليس فقط على أبنائنا بل في نقل أفكارنا وقضيتنا إلى العالم الغربي.