علمنا من بعض الرفقاء في الوطن أن “مؤسسة سعاده للثقافة” تعكف على الإعداد لإصدار طبعة جديدة من “الأعمال الكاملة” لأنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. وكانت الطبعة الأولى قد صدرت في بيروت سنة 2001 مكوّنة من اثني عشر جزءاً. وحسناً تفعل “المؤسسة” لسببين أساسيين: الأول أن المجلدات باتت مفقودة من الأسواق في وقت يشهد فكر سعاده إقبالاً واسعاً من الأجيال الجديدة. والثاني أن السنوات السبع عشرة الماضية أظهرت مزيداً من كتابات سعاده الضائعة أو المجهولة، على رغم أن بعضها أثار نقاشات حول صحة نسبتها إلى سعاده.
الكل يعرف أن العمل على جمع تراث سعاده بدأ باكراً، منذ مطلع خمسينات القرن الماضي. إلا أن الظروف السياسية والأمنية كانت تعرقل دائماً المشاريع المقررة، فينقطع العمل وتضيع الوثائق بفعل الملاحقات والاعتقالات… لتعود دورة البحث والتقصي من جديد إلى نقطة الصفر تقريباً. وهكذا وصلنا إلى مطلع السبعينات لينطلق عمل جدّي شارك فيه عدد من الرفقاء المختصين، وقد أرفدهم رفقاء عبر الحدود في البرازيل والأرجنتين خصوصاً بكثير من المساعدة، لتظهر مجموعة “الآثار الكاملة” في ستة عشر جزءاً بين 1975 و1989. وتلك الفترة الزمنية الطويلة كانت محكومة أيضاً بالاعتبارات الأمنية والسياسية، وتحديداً تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الصهيوني سنة 1982، من دون أن ننسى طبعاً انشقاق الحزب السوري القومي الاجتماعي بين 1974 و1978.
الرفقاء الذين عملوا على جمع تراث سعاده، سواء في “الآثار الكاملة” أو “الأعمال الكاملة”، قدموا خدمة جلى للفكر القومي الاجتماعي عموماً وللحزب السوري القومي الاجتماعي خصوصاً. لكن طبيعة جهودهم المتعلقة بكتابات وخطب زعيم عاش دائماً في عين العاصفة في الوطن والمهجر، كانت تحتمل الأخطاء الناتجة إما عن ظروف إعداد الطبعات للنشر في حالة “الآثار الكاملة” التي صدرت مجلداتها في خضم التدهور الأمني، أو الاعتماد على مقاييس معينة لنفي أو إثبات نسبة بعض المقالات لسعاده في حالة “الأعمال الكاملة”.
هناك عدد من الرفقاء الذين عكفوا في فترات متعددة على تراث سعاده جمعاً ونشراً ودرساً، وغالبيتهم العظمى حالياً إما من الجيل الجديد أو الجيل المخضرم الذي عايش ورافق صحابة الزعيم الذين رحلوا جميعهم تقريباً. هؤلاء موزعون في أنحاء العالم، وكل منهم يملك تجربة غنية ستكون مفيدة في مشروع إصدار الطبعة الجديدة. ولا شك عندي في أن القائمين على المشروع سيأخذون هذا الأمر في الاعتبار عندما يبدأ التنفيذ الفعلي.
لا يهدف مقالي هذا إلى تشجيع التعاون بين الدارسين لتراث سعاده، أو الدعوة إلى تشكيل لجنة موسعة لمتابعة حيثيات المشروع، فهذا من بديهيات الأمور التي لا أظنها غائبة عن مسؤولي “مؤسسة سعاده للثقافة”. إنما أردتُ أن أتطرق إلى المسألة من منظور آخر يدفعني إليه الجدال الذي حدث خلال الأشهر القليلة الماضية بعد أن أصدر الباحث جان دايه كتابيه “رأي الجيل الجديد” و”رأي النهضة” ويتضمنان المئات من المقالات المنسوبة إلى سعاده، لكنها لم تنشر لا في “الآثار الكاملة” ولا في “الأعمال الكاملة”. وقد أدى نشر هذين الكتابين إلى مناقشات حادة بين دايه من جهة وبين بعض الذين يرفضون نسبة المقالات إلى سعاده من جهة أخرى.
أعتقد أنه بات من الملح على المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي أن يخرجوا من الدائرة الضيقة للتقييم الفردي أو الجماعي كطريقة وحيدة لتأكيد نسبة مقال مشكوك فيه لسعاده. فقد أصبحت لدينا تقنيات تغنينا عن نقاش لا طائل منه، طالما أننا لا نملك أدلة لا يرقى إليها الشك تستطيع حسم الجدال البيزنطي في كثير من الأحيان. ويجب الاعتراف هنا أن قسماً أساسياً من كتابات سعاده غير الموقعة يحتاج إلى دقة خاصة في التعامل معه، من دون أن يعني ذلك رفضه جملة وتفصيلاً قبل إخضاعه للتدقيق الفكري والأسلوبي واللغوي كما هو متعارف عليه في البحوث الآكاديمية.
ولكي أوضح اقتراحي، أقول إن الجامعات ومراكز الأبحاث في بريطانيا على سبيل المثال (وفي دول أخرى كذلك) تمتلك برامج كومبيوتر تستخدم للتدقيق في نسبة كتابات مجهولة إلى أدباء وكتاب قدماء. فقد عُثر قبل مدة على نص مجهول أرجعه بعض النقاد إلى وليم شكسبير في حين رفض بعضهم الآخر هذه النسبة. فتم إدخال النص إلى برنامج كومبيوتر خاص بكتابات شكسبير، يتضمن كل إنتاجه المعروف والمؤكد. وقام البرنامج بإجراء المقارنات من حيث المفردات والأسلوب والمحسنات البديعية وتراكيب الجمل ليخرج بنتيجة تؤكد أن النص هو بالفعل لشكسبير.
هذه البرامج الإلكترونية متوافرة على نطاق واسع باللغات العالمية، ولا توجد صعوبات تقنية تمنع تطوير برامج عربية مماثلة (هذا إذا لم تكن موجودة سلفاً)! عندها يتم إدخال كتابات سعاده المؤكدة لكي تصبح بمثابة قاعدة البيانات الأساسية التي ستشكل مقياس المقارنة بالنسبة إلى المقالات المشكوك فيها. عندها يخرج القرار من دائرة التخمين والظن والرأي الخاص، لأن البرنامج سيعطينا الأدلة القاطعة سلباً أو إيجاباً ليس فقط من حيث المفردات والأسلوب وتركيب الجمل، وإنما أيضاً لجهة الأفكار المتضمنة في هذا المقال أو ذاك. يُضاف إلى ذلك فائدة أخرى لا تقل أهمية، وهي القدرة على تضمين البرنامج تقنيات تتيح للمهتمين البحث بسهولة ودقة عن كلمة معينة أو فقرة محددة في كامل تراث سعاده.
مشروع “مؤسسة سعاده للثقافة” الهادف إلى إصدار طبعة جديدة من “الأعمال الكاملة” يستحق كل الدعم من المعنيين بفكر سعاده وتراثه. لكن الإنجاز الأهم والبعيد المدى لـ”المؤسسة”، من وجهة نظر المصلحة القومية الأسمى، سيكون بتحقيق مثل هذا التطبيق أو البرنامج الإلكتروني، حتى لا يبقى تراث أعظم مفكري النهضة القومية الحديثة في سوريا والعالم العربي عرضة للشكوك أو مجالاً مفتوحاً للتحريف والتشويه.
لندن في 28 آب 2017