معرض مفاجىء افتتح في صالة تجليات بدمشق للفنانة أسماء فيومي، صاحبة البصمة الخاصة والمختلفة في التلوين والخط واختيار العناوين. وهذه المرة حمل المعرض عنوان “ورق” لأن فيومي لم تذهب باتجاه اللوحات الزيتية الكبيرة، بل رسمت على الورق بالألوان المائية والأحبار حالات إنسانية كثيرة كانت تؤثر فيها، فتقبض عليها كي لا تفر عبر الورق.
يعتبر الرسم على الورق من التقنيات الصعبة، لأنه لا يحتمل التعديل أو صناعة مسودات من اللوحة، فالريشة ما إن تقع على البياض الناصع للورق، ستصنع الخطوط بصورتها النهائية، ولهذا لابد للفنان من التحلي بقدر كبير من المهارة والاحتراف.
تقول فيومي إنها وخلال مراحل زمنية طويلة ومتباعدة، حرصت استخدام الورق للرسم، بهدف البقاء على علاقة مع هاجسها وشغفها بالألوان، خاصة في المراحلة التي لم تكن متفرغة تماماً للعمل الفني. فالمعرض ضم لوحات تعود إلى بدايات السبعينيات وفي المرحلة التي عملت فيها في التلفزيون السوري كمصممة ديكور. هذه اللوحات الورقية التي تشبه طائرات الأطفال، رافقت أسماء في تحليقها ولم تقطع الخيط كي لا تضل عن طريق الفن. عادت إلى الأسطورة ونهلت من نبع القراءات الكثيرة، ثم شرعت بفتح نوافذ غير مألوفة للتعبير عبر الخط واللون.
تعتبر أسماء فيومي من الملهمات للفن النسوي السوري، وهي من الرائدات القليلات اللواتي تميزن بخصوصية لم تقلد فيها أحداً، ولم تهرب خلال مسيرتها إلى التجريد، لأن صاحبة موهبة أصيلة، جعلتها دائماً تحتفي بالمرأة والطفولة وتدعو إلى التحرر وكسر القيود. هكذا رسمت أكثر من خمسين عملاً في معرضها الجديد، فكرست أسلوبيتها المعروفة باعتماد اللون في الرسم وغياب الخطوط الفجة والصارخة.
أسماء ابنة التدرجات الحنونة، والألوان الصارخة المتناوبة مع الهدوء، تؤكد عمق العلاقة مع الأسطورة السورية القديمة واستخدامها كأسلوب في التصوير الحديث. فالفن الذي ينمو بلا جذور، لاشك ستكون أغصانه هشة سهلة على الكسر، تقول أسماء ذلك ثم تشير إلى الرموز التاريخية في أعمالها بدءا من عشتاء الأم إلى أسطورة الخلق.
يوصف أسلوب أسماء فيومي بالسهل الممتنع، وربما يتلاقى في هذا مع أسلوب المعلم فاتح المدرس الذي امتلك البساطة مع السحر. في هذه التجربة نتأكد أن الفنّ لا يحتمل الغموض والتعقيدات غير الموظفة بشكل صحيح في اللوحة، بل يقترب من العفوية والانسجام مع فكر ومشاعر الفنان أثناء العمل، حتى تغادر اللوحة إطار الأكاديميات الجامدة والإقحام الرتيب في المساطر النقدية. تقول أسماء: أطلقوا أيديكم الحرة أثناء الرسم، فالأصابع تشعر وتفكر وتحسس اللون بذكاء.
تمكن أسماء فيومي “1943” من الثبات طويلاً على نهجها الإبداعي، فلم تتأثر بالتبدلات التي عصفت بالثقافة والفنون، بل بقيت تصر على البقاء قرب الينابيع الجمالية السورية التي تراها زاخرة بالمعاني والأفكار والأساليب. وكان من اللافت دائماً أن أسماء تستطيع تحويل المشاهد المألوفة إلى أعمال ساحرة، تبعاً لحجم الأفكار التي توظفها في العمل الواحد، وطبيعة الألوان التي تتفاقم في كل عمل انسجاماً مع الحالة الشعورية والفكرية التي تحياها الفنانة. تقول أسماء: “مسكونة أنا بالألوان. وكثيراً ما أنشغل بلون واحد مع تدرجاته لفترة من الزمن، ثم أنتقل إلى فضاء آخر لأنهمك به من جديد. المسألة تتعلق بانسجامي الداخلي مع يدي وهي ترسم وتتحاور مع فراشي الألوان والأحبار المسالة التي تشبه عصارة الروح”.
لا تخلو لوحات أسماء فيومي من وجود الإنسان أو البورتريه بصيغة غير نمطية، فمحور اهتمامها الدائم هو الإنسان الطفل والإنسان المرأة والإنسان الفرِح والحزين والتائق إلى الحرية.. إنها بورتريهات متلاشية لكنها تحدث أثرها الكبير في الذهن. تجربة فريدة صافية مثل سطح البحيرات، لا تلبث أن تعصف وتموج منذرة بأسطورة الخلق عندما لم يكن هناك سوى الماء والهيولى.. هكذا تشكيل فيومي الحياة بالألوان.