الأعوام الأربعة من مغامرة “الفينيق” هي بالفعل أربعة أعوام من الأمل. الأمل الذي رافق مؤسسيها منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها. أملٌ بأن فجراً جديداً سينبثق ممّن آمن بأن الحرية صراع، وبأن الكلمة تعني مدلولها، وبأن التعيين شرط الوضوح، وبأن الوضوح يولّد المعرفة، يولد القوة. فجر جديد تحاك خيوطه من صحة عقيدتهم وأفكارهم المشحوذة على محك العقل. فجر نستيقظ فيه جميعنا من سبات فرضه علينا التشرذم والتشتت والأنانية والنزعات الخصوصية والفردية.
نعم، هذا كان الأمل، وسط حالات من التردّي والضياع: حزبٌ مشلّط؛ مؤسساتٌ سقيمة؛ تناحرٌ فوضوي حتى حول أبسط المسائل في الفكر والعقيدة؛ تنظيمات تحمل اسم الحزب منتشرة على مفترق كل كيان سايكس-بيكوي وعلى قارعة كل طريق عبّدها أصحاب السياسات التقليدية والمذهبية؛ معارضات تضاهي بأعدادها عدد التنظيمات و”دعاة التوحّد”؛ جريدة حزب يرأس تحريرها مَن هو غريب عن سعاده وفكره وعقيدته؛ وسط كل ذلك رأت مجموعة من القوميين أن لا بدّ من أن يكون للمؤمنين بالعقيدة صوتٌ ينطلق من حناجرهم هم، ومن أفواههم هم، ومن أفكارهم هم، وليس من حناجر وأفواه وأفكار جهات وأشخاص لا صلة لها بالفكر النهضوي. لهذا كانت الفينيق، فوجّهت الدعوات لأصحاب الأقلام النهضوية المؤمنة للمساهمة في حوارات هادئة وهادفة، عبر مقالات ومواد في الفكر والأدب، موفرة لكل القوميين منبراً حراً له غاية واحدة وهي تحرير العقل من ممارساتٍ وانشقاقاتٍ وارتكاباتٍ امتدت على عقود من السنين.
فلنستعرض معكم ما شهدته السنوات الأربع الماضية، في مقارنة بين ما سعت إليه مجلة الفينيق وما كان يحصل في حلبات المصارعة في أروقة المواقع الافتراضية ومراكز المنفذيات ومحاكم الكيانات.
في المسائل الحزبية الداخلية، فتحت الفينيق في أعدادها الأولى عام 2017 منبراً للحوار حول موضوع لا يزال يحظى، وللأسف، باهتمام القوميين الاجتماعيين، ألا وهو “الإصلاح من الداخل مقابل الإصلاح من الخارج”، في حين كانت ثمة مجموعات خارج إطار هذا الحوار، وبالتالي خارج إطار مجلة الفينيق، تسعى في محاولات بائسة للدمج بين المفهومين، وأخرى أرادت، في محاولات أكثر بئساً، جمع “الأفرقاء” المتخاصمين لـ”تبويس اللحى”، ولم تخلُ الساحة من الداعين إلى إنشاء تنظيم جديد بمنأى عن أصحاب السوابق الذين ارتكبوا المفاسد والجرائم وطعنوا الحزب والقوميين، روحاً وجسداً، في أكثر من مناسبة على امتداد السنوات الخمس والأربعين الماضية.
انسجاماً مع دور المجلة وهدفها في إبراز كل ما هو لمصلحة الحزب والأمة، وقبل أن يُقدم العاملون في “الفينيق” على تقديم حلٍّ للأزمة التي كان يعاني منها الحزب ولا يزال ، ارتأوا أن يشاركوا عموم القوميين بطرح المشكلة واستمزاج آرائهم بغية إيجاد حلول تحاكي الأوضاع القائمة وما يطمح إليه القوميون للوصول إلى واقع حزبي يتوافق وسمو عقيدتهم وغاية حزبهم، انطلاقاً من أن القاعدة الحزبية هي مركز انبثاق السلطة. جاءت تلك البادرة على شكل استبيان وُزِّع على مئات القوميين، بل على ما فاق الألف منهم.، وتضمن العديد من الأسئلة والاحتمالات الهادفة إلى تجميع الرؤى والاقتراحات من القوميين.
في تلك الأثناء سعت جهات متعددة، وفي مقدمّها مسؤولون وعُمُدٌ في التنظيمات الثلاث إلى تعكير الأجواء التي أحاطت بصفاء الغاية التي توخّاها الاستبيان، طالبة من المنضوين تحت سقوفها، وبقرارات حزبية، عدم التجاوب مع محاولة الفينيق. مع العلم أن مسعى المجلة كان يهدف إلى إيجاد مساحة تفاعل يتبادل فيها القوميون الآراء والمقترحات من أجل الوصول لقواسم مشتركة فيما بينهم، في وقت كانت تلك التنظيمات غارقة في مستنقعات الخلافات والتجاذبات التي تطورت في أحيان كثيرة إلى مواجهات بالأيدي والسلاح.
شاركت الفينيق القوميين النتائج التي توصل إليها الاستبيان، ونشرتها تباعاً على صفحاتها، وأبرزت الأبعاد التي حدّدها القوميون في إجاباتهم حول أسباب الأزمات التي تعاقبت، والأطر التنظيمية والخطوات التطبيقية للخروج منها.
استمرت مجلة الفينيق في أداء دورها في إيصال صوت القوميين الحقيقي، واستطاعت خلال عامين من انطلاقها إلى الوصول إلى آلاف القراء، لتضم لائحة العاملين فيها عشرات الكتاب والإداريين والتقنيين. كما ساهم كُتّابها، من خلال مقالاتهم، في إيصال العديد من الأفكار العملية إلى الفئات “المتناحرة” من تنظيمات ومعارضات ومنكفئين، تم الأخذ ببعضها وأُهمِل بعضها الآخر لتناقضه مع المصالح الشخصية لدى أصحاب “الطموحات الحزبية والسياسية”، حيث شعروا أن الحلول العملية والموضوعية تهدد استمراريتهم، كما تهدد الغايات الخصوصية التي استبدلوا بها غاية الحزب.
الرفيق شحادي الغاوي أعد دراسة قيمة حول الديموقراطية نُشرت في أجزاء خمسة، في حين استمر الأمين أحمد أصفهاني في إغناء المجلة بمقالاته التي، كالخمر المعتق، تزداد جودة على مر الزمن.
ثمانية وأربعون إصداراً شهرياً تضمنت عشرات الملفات الخاصة ومئات المقالات والقصائد والدراسات، قدمها عشرات الاختصاصيين والباحثين المؤمنين بالنهضة القومية الاجتماعية.
مسيرة الفينيق مستمرة، بل يجب أن تستمر لأنه من الضروري أن تثابر في ضبط إيقاع نبض القوميين، لا سيّما في ظروف طغى تأثير مواقع “التباعد” الاجتماعي في تبديد الآراء والمواقف.
يجب أن تستمر طالما أن الارتجال في طرح الحلول ما زال طاغياً، وأن مستغلي الظروف لمصالحهم الشخصية لا يزالون يلقون بظلّهم الثقيل، وطالما أن العصابات لا تزال تداهم المراكز الحزبية بقوة السلاح، وطالما أن الوصوليين لا يزالون يلجؤون للقضاء اللبناني، الذي اغتال سعاده وأصدر الأحكام المجحفة بحق أبطال حزبه، لإرضاء مآربهم ونزعاتهم، وطالما أن هناك من تخلّى عن غاية الحزب ليرتمي في أحضان السياسيين الطائفيين التقليديين من أجل الحصول على مقعد نيابي أو حقيبة وزارية، وطالما أن هناك “رموزاً” لا يزال تعشش في أذهانها لوثة الولاء المذهبي من أرثوذكسي إلى كاثوليكي إلى غيره من الانتماءات المجزئة للمجتمع، وطالما أن الكيانية ما زالت مستفحلة، فنسي البعض فلسطين والعراق والأراضي السورية المحتلة، طالما كل هذا يحصل فإن مسيرة الفينيق، الأمل، يجب أن تستمر.