أبعدوا التقديس والـتأليه عن سعادة

Share

ثمة حدثان استرعيا اهتمامي خلال الشهرين الماضيين اخترت أن أشاركهما مع قرّاء الفينيق، علهما يؤسسان لحوارات بنّاءة بين القوميين الاجتماعيين، بغية ترسيخ مفاهيم مشتركة للفكر والعقيدة القوميين.

الأمر الأول وردني إبان جلسة بين القوميين حيث بادر أحدهم إلى توجيه سؤال إلى الحاضرين مستمزجاً آراءهم فيما يختص بما سمعه على لسان رفيق أعلن أن “ليس كل ما كتبه أو قاله سعادة مقدّساً”. أما الأمر الثاني فهو إعلان رفيق آخر بأن “كل ما قاله أو كتبه سعادة يشكّل هو العقيدة السورية القومية الاجتماعية” التي أطلقها الزعيم أساساً للحركة التي نادى بها (والتركيز هنا على كلمة “كل“).

فلنأخذ الحدث الأول أولاً، ونحاول أن نفهم ما قصده الرفيق بأن ليس كل ما قاله سعادة مقدّساً، ولعل أول ما يتبادر إلى ذهننا هو السؤال “هل أن فقط أجزاء ممّا قاله سعادة مقدسة، مقابل “ليس كل ما كتبه”؟ طبعاً الجواب هو “لا، إطلاقاً”، لا أجزاء من أقوال سعادة ولا كليتها مقدسة. فصفة القداسة لم يطلبْها الزعيم، ولم يمنحه إيّاها أحد على الإطلاق، لا معاصروه، ولا المخضرمون ولا الأجيال التي لم تكن قد وُلدت بعد. وذلك على الرغم من التهم التي ما فتئ يوجّهها من لم يفقه جوهر عقيدة سعادة بأن ولاء القوميين يقوم على اساس فكرة “التأليه” لشخص أنطون سعادة. هؤلاء لم يعوا طبيعة تفاعل المنتمين إلى الحزب مع العقيدة، ولم يدركوا ماهية تعاقد المقبلين مع الشارع صاحب الدعوة التي تقوم على أساس قناعة وإيمان بالمنطلقات الفكرية التي وضعها سعادة. وبهذا تكون لفظة “القداسة” فيما يعني الحزب ومؤسسه مرفوضة حكماً. النتيجة إذن هي أنه على الرفيق الذي أطلق هذا الإعلان، أيّاً كان، أن “يسحبه من التداول” فوراً ويعتذر من القوميين لأنه خدم بفعله هذا أعداء الحزب وخصومه، لا بل سلّمهم بطاقةً بيضاء بأن ما يسوقونه من تهم باطلة ينضوي على شيء من حقيقة معينة.

وإذا عبرنا ممّا سبق إلى الحدث الثاني (وسنعود إلى مسألة “القداسة” لاحقاً)، نسأل سؤالاً آخر “أوليست العقيدة هي المبادئ الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل لا تبعاً لزمان أو مكان ولا تماشياً مع ظروف أو حالات ولا مراعاة لمشاعر أو خدمة لأهداف سياسية آنية؟”

العقيدة هي الثوابت لا المتغيرات، وهي ما يلزم المؤمنين بها العمل والتضحية في سبيلها. العقيدة هي الأساس الصلب للفكر والنهج والعمل والتخطيط والتنفيذ. يقول سعادة ” بعد أن وضعت مبادئ القضية القومية التي هي مصدر جلاء الأفكار ووحدة العقيدة والاتجاه ..” فيتضح من هذا القول أن فهم سعادة لدور المبادئ، وبالتحديد الأساسية منها كما سنذكر لاحقاً، يقوم على كونها عامل وحدة العقيدة. ويقول في مناسبة أخرى ” مبادئ الحزب السوري القومي جامعة الشعب السوري في عقيدة واحدة توحده اجتماعياً وسياسياً”. فلم يحدد سعادة عناصر أخرى تشكل العقيدة وتوحدها غير مبادئ الحزب.

تزيل مقدمة ” دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي وقوانينه” أي التباس أو شك حول ما يشكّل العقيدة القومية الاجتماعية فيقول ” ثمّ إنّ الشارع قسّم مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى قسمين: يختصّ الواحد بالعقيدة القومية الاجتماعية وينطوي على المبادئ الأساسية.”

قد يقول قائل أوليس كل ما كتبه أو قاله الزعيم ينطلق من المبادئ (العقيدة)؟ وإذا كان الأمر كذلك فتشكل أقوال وخطب وكتب الزعيم مجتمعة العقيدة القومية الاجتماعية. الجواب على القسم الأول من هذا التصريح هو بالطبع نعم، فالزعيم قد عرّف المبادئ بأنها قواعد انطلاق الفكر (كلمة “قواعد” هنا لا تعني الأصول والقوانين بل الأسس والمنصات التي يقوم عليها البناء الفكري)، فالزعيم حدّد قاعدة الانطلاق لمحاربة النزعة الفردية وتقديم الغالي والرخيص من أجل سمو الأمة وتقدمها وفلاحها وتحديد الولاء لها بمبدأ “مصلحة سورية فوق كل مصلحة”، هنا تكمن نقطة الانطلاق. فالزعيم لم يضع، مثلاً، “إن الدماء التي تجري في عروقنا عينها هي ليست ملكنا، بل هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها” كمبدأ للعقيدة، بل هذه الحقيقة الوجدانية القومية هي نتيجة للمنطلق الفكري بأن مصلحة سورية هي فوق كل مصلحة.

وعلى المقياس نفسه، وإن بدرحات متفاوتة، يتضح لنا بأن جوهر العقيدة عند سعادة متمثّل بالمبادئ الأساسية فقط، كما حدّد في المبدأ الرابع بأن “الأمة السورية هي وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.” هذه هي العقيدة التي ولّدت عامل جذب للقوميين المؤمنين. هذا هو التعريف المجتمعي العلمي لوحدة الشعب ولحقيقة تولّدها، فسعادة لم يقل “الأمة السورية هي وحدة الشعب المتولدة من كينونته مجموع المسلمين لرب العالمين الذين منهم من أسلم لله بالإنجيل ومنهم من أسلم لله بالقرآن ومنهم من أسلم لله بالحكمة.” فعلى الرغم من أن سعادة قد يكون قد أوحى إلى مثل هذه الفكرة في كتاباته، لكن لا يمكن القبول بها على الإطلاق كجزء من العقيدة القومية الاجتماعية. وقد ينبري أحدهم هنا للقول بأنه “عليك أن تنظر إلى الظروف والأحوال التي كانت سائدة في أنحاء الوطن السوري حين قال سعادة ما قاله في هذا الشأن”. نعم، أعترف أني سمعت مثل هذه التعليقات غير مرّة، وهنا نقول إن إعلان سعادة بأننا “كلنا مسلمون لرب العالمين …” هو نتيجة لما ورد في العقيدة من أن السوريين أمة تامة وأنهم مجتمع واحد، فلخدمة العقيدة/الهدف إنطلق سعادة من المبادئ، ليعلن مقابل حالة مرضية طائفية دينية مستشرية بين فئات كثيرة من أبناء المجتمع بأن ما يجمع السوريين، حتى من الناحية الدينية، هو أكبر مما يفرقهم. ليس بالإمكان إطلاقاً ربط المجتمع السوري في أطر دينية أو مذهبية أو طائفية حين تثبت العقيدة أن “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، والتاريخ الطويل الذي يرجع إلى عصور سبقت الزمن الجلي يشمل كل الفلاسفة والعلماء والمفكرين الذي سبقوا القداسة والتقديس والتبخير.

لنعد وإياكم إلى الأمر الأول المتعلق بـ “ما هو مقدَّس”، فالأحرى هو القول إن ليس كل ما قاله سعادة خارج أطر العقيدة والدستور – العقيدة (وما قد ينشأ عنهما من مراسيم قانونية أو نظامية) بالتحديد ليس مُلْزِماً، فكما رأيه بالموسيقى، وإن وافقنا على ما جاء فيه بكليّته، ليس مُلزِماً، كذلك رأيه في الأدب والشعر. فانتماؤنا إلى الحزب قام على اتّخاذ مبادئ الحزب “شعاراً” لنا، وليس اتخاذ نظريات سعادة في نشوء النوع البشري وعناصر نشوء الأمة شعاراً لنا، وإن جاءت مبنيةً على أسس علمية متينة.

لأن الكلمة عندنا تعني مدلولها من الضروري أن يكون قاموسنا واحداً ولغتنا واحدة وفهمنا لجوهر إيماننا واحداً.

0
0

0 Comment

شحادي الغاوي 30 ديسمبر، 2017 - 1:41 ص

اعتقد بصحة رأي الكاتب بأنه لا العقيدة ولا سعادة يجوز وصفهما بالقداسة أو الالوهية بالمعنى الديني لهتين الكلمتين. أما بمعنى “الاستعارة”، وهو جائز في اللغة وآدابها، فنعم يمكن وصف العقيدة بأنها مقدسة للمؤمنين بها ايمانا شديدا. فسعادة نفسه يقول “القضية السورية القومية الاجتماعية المقدسة” في اماكن عديدة من خطبه ومقالاته، ولا يخفى ان “القضية” تتضمن العقيدة. حتى أن سعادة يكرر ايضا عبارات “الدين الجديد” أو “الدين الارضي الجديد” وعبارات “وأن ادين بالقضية القومية الاجتماعية ونظامها”…الخ وبالطبع لا يجب تفسير ذلك بالمعنى السماوي أو الالهي، بل بمعنى شدة الايمان بالقضية التي تساوي وجودنا. أن سوء قراءة سعادة أو قلة الاطلاع على تراثه كله، يجعل البعض يقدسه أو يؤلهه بالمعنى الديني فيسيء اليه والى عقيدته.

فادي خوري 5 يناير، 2018 - 5:43 م

أوافقك كل الموافقة رفيق شحادي، وكما ورد في مقالة الرفيق أسامة “العذاب المبرر”، فإن القداسة وذكر “الله” كتعبير هي في القاموس المتداول منذ قرون في كافة كيانات الأمة، ولا شك أن القداسة والتقديس والمقدّسات ينطبق عليها نفس التفسير. لك الشكر والأمل في أن نقرأ لك قريباً

فادي بشناتي 2 يناير، 2018 - 11:55 م

شكرا . رفيق شحادة

اليسار المنذر 3 يناير، 2018 - 10:48 ص

إني أوافق الكاتب رأيه في ما شرح حول القداسة، كما أوافق شحادي الغاوي على معنى القداسة “بالاستعارة”. وأريد هنا أن أتطرق بعض الشيء إلى خاصية يتميز بها شعبنا في الأمة السورية – خاصية لا أحبذها على الإطلاق- ألا وهي الخلط بين الفكر والفعل. الفكر هو العقيدة الثابتة والفعل هو الموقف الذي يتخذ استنادا إلى الفكر. الفكر هو القاعدة التي أستند إليها لكي أحدد فعلي وتحركي. فهما ليسا ثابتين في المطلق عكس الفكر الذي لا يمكن تبديله. هذا ما يجري تماما عند المؤمنين بالله والدين. فالله هو الفكر والدين هو الفعل. الله لا يتغير إنما الدين، أي الفعل بفكر الله، يتغير استنادا إلى ظروف متعددة ومختلفة. ففي كل مرة ألجأ فيها إلى الفكر لكي أحدد خطوتي المستقبلية، أعمل على تجديد إيماني بالفكر الثابت وتحديث فعلي ليتناسب مع كافة المعطيات المتوفرة لدي دون الخلل بالفكر أي القاعدة. الخاصية التي تكلمت عنها سابقا هي الاكتفاء برؤية الفعل والسير الأعمى خلفه دون التأكد إذا كان فعلي يتناسب مع فكري، فأبعد في كل مرة عن الأسس التي من المقترض أن تكون المحرك الأول لأفعالي، لاصبح في موقع تحويل الفعل إلى فكر يتحول ويتبدل عبر الزمن وأساهم شئت أم أبيت في تبديل الفكر القائل بالمجتمع الواحد، بالتاريخ الواحد، القائل بالأمة التامة. والمؤسف في هذه العملية المتكررة أني بافتقادي إلى الفكر أي المرجعية الصلبة، أصبح غير قادر على التحليل وأضفي على أفعالي صفة القداسة لأني لا أستطيع تفسيرها، وأضعها في عالم أعلى من متناول يدي. عدم القدرة على تحليل فعل ما وعدم القدرة على رده إلى أساسه أي للفكر تجعل من الفعل عملية الهية مقدسة لأنه أصبح في عالم الغيب.

فادي خوري 5 يناير، 2018 - 5:55 م

جميل هذا التعليق رفيقة أليسار، وكم يتطابق مع ما ذكرت في ردي على تعليق للرفيق وسيم سالم على الفايسبوك، حيث كتبت:
“شكراً رفيق وسيم على هذا التعليق السؤال الذي هو في محلّه.
جميلٌ أن ندخلَ مفهوم “النظرة” إلى هذا الحوار، وذلك لتماشيه مع الموضوع، رغم أني لم أتطرّق إلى “النظرة” بالتحديد، بل تكلّمت عن “العقيدة” والـ”رأي”. فذكرت أن المبادئ الأساسية، التي تشكل العقيدة وتوحدها، تشكّل عامل توحيد ما ينتج عن هذه القواعد/نقاط انطلاق الفكر، ومن بينها توحد في النظرة إلى الحياة والكون والفن. المقال، وبالتحصيل كاتبه، يؤيد نظرة سعادة في الموسيقى ونشوء النوع البشري، ولم يعارضها، ولكن هذا التوافق لم يأتِ بالإلزام بل بالاستقراء والاستنتاج والاستنباط التي جاءت كلّها، بمفهومها القومي الاجتماعي لا غير، نتيجة توحّد الفكر ومنطلقاته.
في “الصراع الفكري في الأدب السوري” يروي سعادة حكاية مواطن في سان باولو ورأي هذا الأخير بالسمفونيات التي لا يعتبرها تقارب قيد أنملة الطرب الشرقي “الشجي”، ويتضح من رأي الزعيم في هذه الحكاية أنه ضد من يتغنّى بـ”طيب العناق على الهوى” (وقد غنّتها فيروز)، ويذكر أم كلثوم بالتحديد ناعتاً إياها بشكل يقارب التهكم بـ”المطربة المشجية”. هذا “رأي” الزعيم بالموسيقى الطربية ولكنه لا يشكل “نظرته”. إن شئت، نظرته تمثّلت فيما قاله في نفس الكتاب من أن الموسيقى “ليست لغة العواطف فحسب بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً”. هذه النظرة جاءت نتيجة غنى الأمة السورية بمواهبها المخزونة على مر الأزمان والتي أثبتت المكتشفات الموسيقية في سورية الشرقية أن موسيقانا تمثلت برقي مميز يحاكي الفكر أكثر مما يحاكي الخصور المتمايلة. هنا الفرق بين النظرة و”الرأي” ، وعلى هذا الأساس فإن من يغني “يا جارة الوادي” لفيروز أو “هل رأى الحب سكارى؟” لأم كلثوم من السوريين القوميين الاجتماعيين لا يمكن اعتبارهم أنهم خرجوا عقائدياً.
وعلى ذكر “النظرة”، وأجدد شكري لطرحك الموضوع، أحيلك والقرّاء إلى ندوة قدّمها الرفيق أسامة المهتار مؤخّراً ضمن نشطات جمعية الهلال الخصيب (فرنسا) بعنوان “النظرة من المُثُل إلى التنفيذ” ويمكنك متابعتها على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=XmwAj7URLBA
على أمل أن أقرأ المزيد من مقالاتك رفيقة أليسار قريباً، لك سلامي القومي

Post Comment