جاء في الأخبار قبل أيام أن “الشرطة الإسرائيلية” ألقت القبض على خمسة من تجار العاديات والآثار في مدينة القدس المحتلة، وصادرت عشرات القطع الآثارية من عصور مختلفة، وذلك في إطار تحقيقات دولية واسعة تتعلق بتحف عراقية مهربة وجدت طريقها إلى الأسواق العالمية… خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية.
والواقع أن “الشرطة الإسرائيلية” تحركت للتعامل مع هذه المسألة فقط بعدما كشف المحققون الأميركيون تفاصيل صفقة شراء أبرمتها شركة أميركية تتعاطى بتجارة التحف والأعمال الفنية تدعى “هوبي لوبي”. وأسفرت التحقيقات العالمية حتى الآن عن اعتقال عدد من الأشخاص بتهم متنوعة منها التهرب الضريبي وغسل الأموال والتزوير
تفاصيل الفضيحة أن “هوبي لوبي” دفعت خلال السنوات السبع الماضية حوالي 1.6 مليون دولار لشراء كميات من الآثار العراقية عن طريق وسيط تجاري في الإمارات العربية المتحدة. ليتبيّن لاحقاً أن الذين باعوا التحف هم من التجار الإسرائيليين المرخص لهم بالعمل في هذا المجال، لكنهم أقدموا على تزوير بيانات المصدر والفواتير وشهادات الملكية وما شابه ذلك. وكشفت التحقيقات أيضاً أن شحنات التحف لم تدخل “إسرائيل” قط، وإنما تولى التجار الإسرائيليون عقد الصفقات المباشرة مع “هوبي لوبي” على أن يتم الشحن من دبي.
ونظراً إلى النتائج التي توصلت إليها التحقيقات الأميركية، إضطرت “هوبي لوبي” في تموز الماضي للتخلي عن التحف ودفع غرامة ثلاثة ملايين دولار للسلطات الأميركية. وأصدرت الشركة بياناً أوضحت فيه أنها “بدءاً من العام 2009 بدأت بالحصول على مجموعات متنوعة من المخطوطات التوراتية القديمة وغيرها من التحف. ذلك أن تكوين مجموعة من الكتب والتحف ذات الصلة بالتوراة خطوة تنسجم مع غاية الشركة والعاطفة التي تكنها للتوراة”.
وأظهرت وثائق التحقيق أن 5548 قطعة آثارية تم شحنها من دبي إلى أميركا على دفعات خلال السنوات السبع الماضية، بشهادات منشأ مزورة زعمت أن الشحنات عبارة عن سيراميك ونماذج فنية وغير ذلك، وأنها جاءت من تركيا و”إسرائيل”. ويعتقد المحققون أن الغالبية العظمى من التحف إما مسروقة أو تم الحصول عليها من خلال التنقيب العشوائي غير الشرعي في العراق منذ العام 2003، ثم جرى تهريبها إلى دول الجوار تمهيداً لتسريبها شيئاً فشيئاً إلى الأسواق العالمية في أوروبا والولايات المتحدة
لا شك في أن السلطات الأميركية حققت نجاحاً مهماً في تحطيم إحدى الشبكات الدولية التي تتاجر بالتحف والآثار المهربة. لكنها مجرد شبكة من عشرات، بعضها يحظى بتغطية رسمية في عدد من دول المنطقة. يُضاف إلى ذلك أن الجهات الأميركية المعنية ستضع يدها على هذه المجموعة التي لن يجرؤ أحد على المطالبة بها، خصوصاً إذا كانت نتاج التنقيب العشوائي لأنه سيكون من الصعب تحديد المكان الذي عُثر عليها فيه. وحتى في حالة القطع التي يمكن الجزم بأصلها، فستمر سنوات من التعقيدات البيروقراطية قبل عودتها إلى موطنها الأصلي.
ونصل الآن إلى أخطر النتائج وأدقها. إذ تبيّن أن تلك المجموعة تحتوي على المئات من الألواح الطينية التي تحمل كتابات بالأحرف المسمارية. وبما أن التنقيب العشوائي ينتزع تلك الألواح من دون أي تسجيل أو عناية منهجية بالتراتب الزمني لطبقات الأرض، فإنه من المستحيل وضع محتويات الكتابة المسمارية في سياقها التاريخي والجغرافي. وهكذا يفقد المؤرخون وعلماء الآثار القدرة على الاستفادة من أي معلومات جديدة قد تتضمنها التحف والآثار المهربة، وبالتالي تخسر الأمة جزءاً أساسياً من تاريخها القديم.
فلنتذكر أن الأمة التي لا تاريخ لها… لا مستقبل لها. والشعب الذي يجهل تاريخه… لا يمكنه أن يصنع مستقبله!!