LOADING

Type to search

شعر الحرب في مواجهة قصيدة الالتباس!

ثقافة وفنون موضوع العدد

شعر الحرب في مواجهة قصيدة الالتباس!

Avatar
Share

اختلاط الحداثة بالتقليد إلى حد الالتباس، ليس جديداً في الثقافة. فهو حاصل قبل الحرب ومستمر حتى إشعار آخر، في السياسة والاقتصاد وحافلات النقل العامة وذهنية المجتمع وعلاقات الحب والغرام والصداقة. المشكلة بنيوية لا تقتصر على الأساليب بل تتعلق بالمضامين، على عكس المفهوم السائد بأن الأفكار موجودة على قارعة الطرق ولا ينقصها سوى مهارة الالتقاط! فالأفكار أيضاً لا تتوفر بشكل سهل لأصحاب الأساليب، مثلما هو الحال عندما يضلّ المفكرون عن اختيار الطريقة المثلى للتعبير.

ضفاف عدة تنازعت القصيدة السورية خلال العقد الماضي، حتى ظهرت الكتابة الشعرية رجراجة مترددة بين التفعيلة والنثر. فهي في جانب منها، تعتمد الوزن سماعياً بشكل مكسور، لكنها تكتب النثر دون أن تمتلك أدواته! وعندما تجتهد في الصور بناء على مشاهدات الحرب، تحمل إرثها القديم في الإنشاء مبتعدة عن الشعرية. هذه الضفاف تبدو مفهومة في ظل ما نحكيه عن مخاضات يعيشها الشعر ريثما يحين موعد الولادة المجهول للكتاب والنقاد على حد سواء. الشعر في هذا الإطار، بحاجة إلى نظرة جديدة تجاه قضايا الطائفية والدين والحرية والهوية، وليس صحيحاً قول البعض إن القضايا الإنسانية والوطنية هي ذاتها، وإن ما يتغير هو الأساليب!

المتتبع لوابل الإصدارات الشعرية خلال السنوات الماضية، سيكتشف البذور الإبداعية وهي تنتش وتتبرعم في النصوص، لكن قلة قليلة تمكنت من رسم المسار والسير عليه، وذلك جراء عدم حسم الخيارات الأسلوبية أولاً، وعدم الجدة في المضامين ثانياً. لابد للشعر أن يجيب على الأسئلة الكبرى، وبالتالي فهو ليس بوحاً عن مشاعر الأفراد وعلاقاتهم العاطفية وانفعالاتهم الشخصية تجاه مختلف القضايا. صحيح أن كثيراً من الشعر اكتفى بهذه المهمات الشخصية، لكنه من الوجهة الإبداعية كان أقل مستوى من الشعر فاتح الآفاق. وبالتالي فإن قضايا الشعر السوري الراهنة سوف تختلف جذرياً عن الوقوف على الأطلال والرثاء والمديح والحماسة التي درجت حتى فترة طويلة في الجزيرة العربية وأثرت بشكل كبير على الذائقة السورية منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة.

نستطيع اليوم تناول عدد من المطبوعات الشعرية التي حاولت رسم خصوصيتها في المشهد، لكنها تعثرت في أكثر من مكان ونجحت في آخر، ففي كتاب الشاعر علاء زريفة “عازف الكلاشينكوف الضرير” الصادر عن دار نينوى بدمشق2022، هناك محطات يمكن أن تضيء ما سبق. الصور في هذا الكتاب مختلفة وجديدة وهي الحامل الرئيسي للنصوص. يقول علاء “أنا السوري الملوثة شرايينه كبردى” “كلما صليت: أيا وطني.. يا غبار الطلع المدمّى.. جبين قمر ناقص..”  “أنا السوري الملغّم بالأبجديات الخاسرة..” الصورة هنا باهية وفريدة، وهي تتكرر في كثير من النصوص، لكنها تضيع في استهلاك أسلوب التفعيلة عن غير قصد من الشاعر، ولو أن علاء حسم الأمر بشكل جذري باتجاه التفعيلة أو النثر، لكان الأمر أفضل في بنية القصيدة الزاخرة والغنية. ففي الديوان نجد ما تحدثنا عنه من بذور تنتش رويداً باتجاه الخصوصية، وهي لابد أن تجد طريقها إلى الضوء في المطبوعات القادمة.

معجم “أنا السوري الملوثة شرايينه كبردى” غنيّ وينجو من الاستهلاك والتكرار، وتلك ميزة تضاف إلى الصورة الذكية والمؤثرة لديه، فلا فقر في النصوص من ناحية اللغة، بل هناك زخم متصاعد في كل مقطع يمر كأن علاء يقطف الكلمات من معجم سريّ غير متاح للآخرين. فالكتاب يجمع ميزتا الصور الجديدة واللغة الغنية، وهما صفتان لو حسمتا أمرهما باتجاه التفعيلة أم النثر لكان الأمر أفضل لشخصية النصوص التي كتبها بكل صدق وانفعال.

في كتاب “الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا” للشاعرة ريتا الحكيم، الصادر عن دار التكوين بدمشق 2019، المشكلة نفسها بالنسبة لقضية التفعيلة والنثر، ورغم أن ريتا تنحو باتجاه السرد أكثر، إلا أن النصوص تبدو متحفزة بتردد نحو حسم الخيار تجاه أي الأساليب تختار، هنا أيضاً يمكن أن نتحدث عن رهافة في الشعور وفرادة في الصورة وبوح صادق مع خصوصية تتلمس طريقها، لكن كل هذا يتم استهلاكه في عدم اتضاح هوية النصّ، ولو أن الشاعر حسمت هذه القضية لكانت النصوص أكثر بسالةً وجدة بالنسبة للكتابة الشابة.

ما تحدثنا عنه من التباس الهوية بين التفعيلة والنثر، يشتد بشكل كبير إلى درجة يضطر فيها القارىء إلى استخراج البحر الوزني من النصوص، فيكتشف أن الوزن سماعيّ اقترب كثيراً من التفعيلة، لكنه ظل يسمى نثراً دون أن يمتلك أسلوبية النثر.

تمتلك ريتا شاعرية مشحوذة بشكل جارح، فهي تدير الكلمات بما يخدم روح الصورة التي تقاربها، تقول: “الكتابة إليك رمال متحركة.. ينغرز فيها قلبي كشاهدة قبر”.. “أنا امرأة تتكاثر بالهمس.. ما إن تخترقها أنفاسك حتى تنجب شعوباً..”.

اللافت في الشعر ملتبس الهوية، هو الوزن السماعي المتسرب وراثياً إلى نصوص الشعراء، فهو من بقايا تراث الوزن العربي الصحراوي الذي أزاح الأوزان السورية “السريانية” التي كانت سائدة قبل الإسلام، وقد يكون ذلك مؤشراً على مغادرة الشعراء نهائياً لهذه الأوزان عبر فترة تمهيدية تقتضي كتابة قصيدة الهوية الملتبسة ليأتي بعدها دور القصيدة واضحة المعالم، سواء في حسم أمرها بالذهاب إلى وزن مختلف وجديد، أو بالانطواء تحت كتابة النثر بشكل نهائي وهذا أمر يقتضي تبدلاً في الأسلوب.

في كل الأحوال، هناك الكثير من التجارب اللافتة التي يمكن أن تتحول إلى بصمة جديدة في الشكل والمضمون، وليست تجربة علاء زريفة وريتا الحكيم في كتابيهما، إلا عينات من المخيلات الجديدة التي تبشر بأفق مختلف.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.