يوميات لاجئ-ابن البلد

image_pdfimage_print

القصة الأولى: حكاية طويلة

 فتحت عيني على صوت المنبّه.

لم أفهم يوماً العلاقة بين العين والصوت، فأحياناً أشعر بأن عيني هي من تسمع فتستجيب.

لا بد أنه يوم كبير في حياتي، فأنا متجه لأقابل مالك البيت الجديد الذي سأنتقل إليه في قلب المدينة.

نعم.. أخيراً سأنتقل من هذا السرير الصغير وأخطو أول خطوة نحو لمّ شمل عائلتي لنلتقي هنا في ألمانيا ونبدأ فصلاً جديداً من حياتنا.

رحلتي إلى هنا، لم تكن سهلة.. ولا أريد أن أتذكرها أصلاً. المهم أنني وصلت وأوراقي شبه جاهزة لأحضر عائلتي ونعيش هنا بعد انتظار سنتين وثلاثة أشهر وسبعة أيام.

أنا لم يتبق مني الكثير بعد كل ما حدث. سُلب مني الأكثر، حُذِف من ذاكرتي ماض بأكمله، وليس أمامي إلا ما هو آت. صحيح أنني أتعرّض للهجوم كل يوم من قبل ذكريات أهرب منها، إلا أنني تعوّدت أن أبقى يقظاً لأسكت كل صوت يعلو داخلي.

توجهت إلى مركز المدينة وفق العنوان المدون على ورقة في يدي.. وهناك وجدت هذا المبنى. قيل لي بأنه في هذا المكان، كان هناك مبنى عمره مئة عام أو أكثر، وقد تمت إزالته لأنه تهالك وكاد يسقط على رؤوس أصحابه. على باب المبنى الجديد، يجلس رجل تسعيني يسند كل ما في رأسه من أشياء رآها في حياته، فوق عكاز خشبي لامع. صحيح أنك ترى أثر محراث العمر في وجهه، إلا أنه يرتدي بدلة أنيقة وقبعة “خواجات” ما يدلّ على وضعه الاجتماعي الجيد. مررت بقربه وهززت رأسي محيياً. نظر إليّ كأنه يعرفني، وابتسم ابتسامة غريبة جداً لم أفهمها في وقتها.. لكن الساعات الآتية كانت كفيلة بأن تبوح بكل شيء.

ذهبت للطابق الأول وفق ما هو مكتوب في الورقة، وسألت عن مستر “هومان”. طرقت باب الشقة ووقفت أنتظر.

في لحظات الانتظار هذه، كان الصمت يخيّم على البناية، كأن أحداً لم يطأ هذا المكان منذ عقود.. فعادت تلك الذكريات بمهاجمتي، ولكن بشكل أقسى من المعتاد، وكأنني لم أكن جاهزاً هذه المرة فسلبت مني بعض الغنائم. نظرت إلى الباب وتذكرت ما فقدت.. وفي محراب الفقد يسجد الصمت. ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة يكون محملاً بالخوف والانتظار والترقب. أما الصمت بعد العاصفة فيتّسم بالألم واليأس والصدمة. وكلا الصمتان يتنافسان على شرخ حصتهما من ذات القلب. أما العاصفة.. فتبقى مشردة بلا مأوى أو تستوطن في ذلك القلب لسنين ستأتي.

أنقذني المقبض وهو يُفتح. نظرت إلى السيد الأنيق وراء الباب وابتسمت له، فردّ لي الابتسامة بهزة رأس وابتسامة أعرض. هنا في ألمانيا.. قلّما يبتسمون، وهذه ثاني ابتسامة تستقبلني في ظرف ثلاث دقائق. لعلّها إشارة بأن هذا البيت “وجهه خير” عليّ.

إنه السيد “هومان”، رجل في أواخر الستينات، محترم للغاية وجهه بشوش ويبدو من عائلة ثرية. أخبرني بأنه أشرف شخصياً على تنظيف الشقّة وأنها جاهزة للتسليم، ثم بدأنا نتجوّل داخلها، وأخذ يشرح لي كافة التفاصيل والدفعات، وتوزيع الشقة، وما هو المسموح والممنوع وكل ذلك.

هنا في أوروبا، تختلف الابتسامة عن ابتسامتنا كعرب. ففي بلادنا، إن ابتسم أحدهم لك.. يخجل أن يكون جاداً معك في باقي التفاصيل، فيحاول التملّص من أسئلة عديدة تجنباً للإحراج. وشيئاً فشيئاً يشعر بأنه قد “انظلم” في العلاقة بينكما، ليبدأ بتخليص حقّه من تحت الطاولة. يعني باختصار، تبدأ العلاقة عندنا بابتسامة وتنتهي بمشكلة كبيرة. أما هنا في أوروبا، فتشعر بأنك تتعامل مع شخصين اثنين، أحدهما يبتسم، والآخر لا يدّخر جهداً في سرد حقوقه بشكل تفصيلي أقرب للعداوة، فتبدأ العلاقة بابتسامة.. وتنتهي بمصافحة.

ولكن رغم الكثير من الأشياء السلبية في بلادنا.. إلا أنني لم أتخيل يوماً أنني قد أنام في حديقة، أو خيمة. ألا يكون في جيبي ثمن لرغيف خبز. بلادنا بلاد خير، وأهلها – نوعاً ما- طيّبون، لديهم بقايا من الأخلاق التي لن تدعك تشعر بأنك وحدك. أما هنا في أوروبا، فالوضع يختلف. أنت هنا وحدك، عليك أن تفكّر في كل شيء وتحذر من كل شيء. القانون يسري على الجميع، ولا أحد في منأى من أن ينام جائعاً في زاوية ما. لذا عليك أن تصرف معوناتك بعناية، وتستغني عن كل شيء يجعلك تشعر بأنك مختلف عن غيرك.

كان السيد “هومان” واضحاً، وبعد أن انتهى من الكلام سألني إن كانت لدي أسئلة. بصراحة، لم يترك لي أي مجال لأي سؤال، فقد أجاب عن كل استفساراتي خلال شرحه. فهززت رأسي بالنفي وشكرته.

وهنا انتبه إلى لهجتي الركيكة. فسألني من أين أنا. في الحقيقة.. مهما تعلمت الألمانية.. يمكن لأي ألماني أن يعرف بأنك لست ألمانياً أصلياً. قلت له:

“حكاية طويلة.”

دائماً ما أستخدم هذه العبارة كي أزيد شيئاً من الدعابة على الجو. وبصراحة أكبر.. هذه العبارة تنقذني من شرح تفاصيل عديدة لا أريد أن أذكرها فعلاً.. أنا أفخر بأنني فلسطيني، وأنني ولدت في لبنان. أفخر بدمي العربي الذي ينساب في عروقي. ولكنني لا أفخر بكيفية وصولي إلى هنا.. أو لم أتيت أساساً؟ ربما لأنني لم أجد وطنناً وجئت أبحث عنه في مكان بعيد. لا أريد أن أتذكر بأنني لست سعيداً باستبدال لغتي العربية بأي لغة كانت، وأنني بدأت أتقبل بأن ابنتي ستراهق هنا، ولن أستطيع منعها من الخروج مع أي شاب تختاره أو يختارها.. هناك تفاصيل كثيرة فعلاً أتجنبها بدعابة بسيطة مثل “حكاية طويلة”. وبالغالب، يبتسم السائل ويمضي في حال سبيله وهو يفكر بأنني إنسان خفيف الظل، عمليّ، غامض.. وأقول الشيء المناسب في الوقت المناسب. الحقيقة.. أنا عكس كل ذلك. أنا إنسان هش، فقد بعضاً من ملامحه، رمى الكثير من مبادئ لطالما حملها من فوق عوامته المطاطية في بحر اليونان ليصل إلى هنا. ترك عائلة من أربعة أفراد بزوادة كبيرة من الأمل، وحِملٍ أكبر من الخيبة وتقريباً بلا مال أو طعام، طمعاً بمساعدات إنسانية تبحر في الاتجاه المعاكس لرحلته.

لكن مستر “هومان”، ابتسم وقال لي:

“أنا أحب الحكايات الطويلة.. ولا شيء ورائي حالياً. دعنا ننزل قليلاً لأعرفك إلى والدي، وسنتحدث في الطريق.”

قلت له إني فلسطيني الجنسية، لبناني المولد والنشأة، عشت بين سوريا ولبنان، ثم قررت اللجوء إلى ألمانيا. فابتسم للمرة الثانية وقال:

“هذه حكايتك الطويلة؟ أنهيناها قبل أن نصل إلى البوابة وتتعرف إلى والدي.”

ثم قال لي باللغة العربية وهو ما زال يبتسم “شو هاد حبيبي؟”، وأكمل بالألمانية:

“الآن.. أبي سيقص عليك حكاية طويلة.”

وصلنا إلى باب البناية حيث رأيت الرجل التسعيني، كان مازال يحدق في الشارع حوله. وعندما رآنا، ابتسم لي من جديد.

استغربت كثيراً من كمّ الابتسامات التي تلقيتها اليوم. عادة أرى هذا العدد من الابتسامات على مدار أسبوع كامل. ولكن في يوم واحد.. وقبل العاشرة صباحاً؟! لا بد أن هناك مؤامرة ما.

طبعاً.. بالنسبة لي، نظريات المؤامرة أصبحت يومية. كلما قرأت خبراً عن مدينة أو شخص أو قائد أو حتى آكلة.. أنسبها للاستعمار والصهيونية أولاً. فنحن تعودنا أن نعيش في شك متواصل سببه قلة الثقة وكثرة الإحباط. لأننا لم نر ما يسرنا منذ ولدنا في الشتات، حتى بدأنا نؤمن بأننا خلقنا لنتذيل الأمم ونكون ممسحة الحضارات. صرنا نشك بصحة تاريخنا، بوجود عنترة العبسي، أو حاتم الطائي.

ولكن للحظة.. رأيت أربع ابتسامات في ألمانيا خلال يوم واحد. مع هذا الكم من التفاؤل والسعادة، لا أظن أنه توجد مساحة للاستعمار والمؤامرة. لا بد أنها إشارة خير. وأن هذه الشقة.. هي عنوان لم شملي مع أسرتي.

سلّم علي التسعيني.. وعرفني إلى نفسه باسم “ديفيد موهان”. اقترب منه ابنه وهمس في أذنه بلغة لم أعرفها، هي حتماً ليست الألمانية.

هز السيد موهان الكبير رأسه كأنه يعرف ما أخبره ابنه به. ثم بدأ يتكلّم بلهجة فلسطينية طليقة:

“إي بعرف إنه فلسطيني! عرفته أول ما شفته من شوي.”

صدمني التسعيني بلغته العربية، أكثر من صدمتي بأنه عرف جنسيتي من نظرة. وهنا.. بدأ يكمل حكايته الطويلة باللغة الألمانية.

قال لي بأن جدّه كان يمتلك هذا البيت القديم، وفي ثلاثينيات القرن الماضي، ترك والده البيت وتوجه إلى فلسطين.. حيث وُلد ديفيد وترعرع. ثم راح بعدها يخبرني عن جمال فلسطين، وعن أصدقائه العرب. قبل أن يلتفت إلي ويقول باستغراب ممزوج بسخرية:

“وفجأة تركها العرب.. لا أعرف لماذا! وجدنا نفسنا وحيدين واضطررنا أن نبني الكثير من البيوت هناك، ونعيد إعمار المدن ورصف الشوارع.”

تبين لي أن السيد ديفيد، كان مهندساً وساهم في بناء كثير من المستوطنات والقرى.. وأثناء سرده لبطولاته في تعمير “إسرائيل” لم أعد أهتم بالتفاصيل، رحت أفكر بكيفية الاستجابة لحكايته الممتعة. هل أرد لهم بعضاً من ابتساماتهم العديدة؟ هل أستهجن وأعبّر عن استيائي؟ هل أبقى صامتاً؟ أغادر أم أبقى.. وقبل أن أجد الجواب.. استعدت وعيي عندما أخبرني بأنه عاد إلى بيت جدّه وبنى هذه البناية، ليستفيد من استثمارها.

ثم ابتسم لي “موهان” الابن وقال:

“هذا ما نسميه حكاية طويلة.”

هززت رأسي، وأدرت ظهري ومشيت بعيداً. لم أكن أحتاج المزيد لأفهم بأنني سأدفع لهذا الرجل مبلغاً شهرياً مكافأة له.. لأنه جعلني هنا بلا بيت أو وطن. أننا كلانا قطعنا البحر باتجاهين متعاكسين، لنسكن في بيوت بعضنا، ولكن الفرق بأنه تملك بيتي مجاناً، وأنا أستأجر بيته شهرياً.

بعد خطوتين أو أكثر قليلاً.. ناداني موهان الابن من بعيد قائلاً:

“سأعطيك خمسين يورو خصم كل شهر لأنك فلسطيني.”

التفتُّ إليه، ابتسمت.. ومضيت في طريقي.

  • – النهاية –

 

في هذا العدد<< قفا نبكخليل حاوي… أسطورة الانبعاث >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شحادي الغاوي
شحادي الغاوي
3 سنوات

انها فعلاً قصة طويلة: فمن جهة نفخر “بالدم العربي” الذي يجري في عروقنا، ومن جهة أخرى نسمي لبنان الذي ولدنا فيه “شتاتاً”.
القصة تنجلي تماماً عندما نعرف أن عروبة الدم هي رجعية ووهمية ولا يجب أن تكون بديلاً عن العروبة الواقعية الحقيقية. أن فقدان الوجدان القومي السوري والهوية القومية السورية، حيث فلسطين ولبنان هما امتداد جغرافي واجتماعي طبيعي واحد وينتميان الى وطن واحد، هو السبب في ما حلّ ويحل بنا من تفكك وتساقط ونزيف. تحيتي لك ومحبتي.