يوميات لاجئ: “هاربون إلى تايلاند” – ابن البلد
القصة الأولى: القميص – الجزء الأول
دمشق، مخيّم اليرموك، الأحد 2012-11-12 العاشرة صباحاً.
لطالما فكّرت في نفسي.. ترى ما كان لون قميص يوسف الذي جاء عليه إخوته بدم كذب؟ أهو ذات لون القميص الذي برّأه عندما قُدّ من دبر؟ أم ذاته الذي ردّ يعقوب بصيراً؟ ذاك القميص ما أغربه؟ بدأ شريكاً في كذبة ثم دليل براءة ثم علاجاً لداء. لا أعرف لم سرحت في قصة القميص وأنا أنظر إلى جارنا أبي سعيد.
هذا القميص الموّرد الذي يرتديه كم يحمل من أمل وحبّ للحياة.
كان العم أبو سعيد يشدّني من ذراعي ليدعوني إلى فنجان قهوة. غريبون نحن كيف نشرب القهوة في أي وقت، كيف نجعل لها طقوساً ومناسبة فتصبح أهم من أي حديث آخر. وهو يشدني.. اكتشفت أن قبضته ما زالت قوية رغم سنّه، لكن ابتسامته أقوى. أقوى حتى من شارب كث يكاد يخفيها. أقوى من تلك الألوان الزاهية في قميصه الموّرد. أنا شخصياً لم أعرف أحداً لديه هذا القدر من الترحاب في وجهه، فعلى الرغم من انشغالي الدائم وردّي له بالنفي كل يوم تقريباً.. لكنه لا يستسلم. يصر ويصر كل مرّة. حتى أنني صرت أختبئ تحت الدرج قبل الدخول أو الخروج حتى لا يراني أبو سعيد فترة الغداء. لكنني اليوم لم أتوقع رؤيته عندما خرجت باكراً لأشتري بعض الفطائر الساخنة لابنتي.. فهي تحب الفطائر كثيراً وأنا أبٌ أحب رؤية الحب في وجه أبنائي.
وليضيف شيئاً من الإغراء على عرض القهوة.. أخبرني بأن خالتي أم سعيد لديها يد سحرية، والقهوة التي تحضّرها لا مثيل لها في العالم. لكنني فاجأته بطلبي أن يعذرني بعد كل تلك الدعوة، فأنا أريد أن أفطر سريعاً وأذهب إلى عملي.
الشيء الوحيد الذي يطفئ ابتسامة أبي سعيد.. ردّك بالنفي لدعوته. هزّ برأسه متفهماً وأطلق يدي. صعدت الدرج إلى الطابق الثاني حيث بيتي وأنا أقول في نفسي: لا بد أن يأتي يوم وأجيب دعوة أبي سعيد لأتناول معه القهوة. فقد انتهت الأعذار وصرت أبدو كاذباً. ركض إليّ أبنائي الثلاثة، عانقتهم وأعطيت الفطائر لطفلتي وتحدث إلى زوجتي قائلاً:
- خلاص صار لازم نزور عمّي أبو سعيد.. عيب.
ثم ركضت لأغسل يدي قبل الجلوس حول طاولة الفطور. وأنا أجري إلى الحمّام.. نظرت إلى بيتي الصغير. لكل غرض هنا حكاية كتبتها مع زوجتي. فعلى الرغم من بساطة مفروشات البيت.. إلا أنني أشعر بأنني ملك هذا المكان وسلطانه. وفوق هذا العرش تجلس زوجتي بجانبي وأطفالي.. لا يكدّرنا شيء إلا فكرة تايلاند التي اتفقنا عليها، بعدما ساءت أحوال البلد وضاقت أمورنا المادية. لذا قررت مع أحد أصدقائي استخراج تأشيرات لتايلاند قبل أسبوعين، علّنا نجد عملاً مناسباً هناك.
لم تايلاند؟ ببساطة لأن عملي فيها كمخبري أسنان واعد بعض الشيء، وأمامي فرصة لأبدأ شيئاً جديداً هناك. إضافة إلى أن تأشيرتها السياحية سهلة الاستخراج لنا كحملة وثائق، فهي تقريباً الملاذ الأول لكثير ممن لا يريدون رمي أنفسهم في البحر. بعبارة أخرى.. كان عليّ الاختيار بين تايلاند والبحر.. وأنا اخترت تايلاند.
أفكار كثيرة كانت في رأسي وأنا أغسل يدي، وما إن انتهيت.. حتى هز البيتَ انفجارٌ ضخم من سطح البناء.
لم أعد أفكّر. ركضت وحملت أولادي الثلاثة وسط هيستريا صراخ من زوجتي. صحيح أننا نعيش حالة الحرب منذ أكثر من عام ونصف.. لكننا لم نتوقع أن تكون الحرب قريبة منا بهذا الشكل.
هذا هو صوت الخوف الحقيقي. عندما تكون في لحظة أمان تامة وتصبح في جحيم مطلق، هنا.. يصبح الصراخ رد فعل يفوق الفعل بالتأثير ويوافقه بالاتجاه. تصير عاجزاً عن الكلام.. وتستبدل أبجديتك بحشرجة غريبة. تتناوب ملامحك التعبير.. فتتحدث باحمرار عينيك، وتشنج وجهك وتنميل أطرافك.
ونحن في خضّم موجة الخوف تلك.. ضربنا انفجار أقوى من سابقه. ولكن هذه المرّة من أسفل البيت. تحول البناء فجأة إلى علبة كبريت ترجّها يدٌ عابثة. وعلا صراخي هذه المرّة صراخ زوجتي وبكاء أطفالي. لم أعد أعرف أأذهب إلى السطح أم المدخل. كنت أدرك بأن هذه الأسقف ستسقط لتهرسني وأطفالي، فحملتهم وقامرت بالجري إلى الأسفل حتى أخرج من البناية.
كنت حافياً أنا وزوجتي ونحمل الأطفال بثياب البيت.. لم نعد نفكّر أننا ندوس فوق الزجاج أو الحجارة أو الحطام. نفكر فقط كيف سنخرج من نوبة الصراخ هذه على قيد الحياة. وما إن وصلت إلى مدخل البناء حتى دست شيئاً غريباً. حتى اليوم، أذكر ذلك الملمس.. نظرت إلى موضع قدمي فرأيت قميصاً موّرداً كان يحمل الكثير من الأمل والحياة قبل قليل.
هذه المرّة دست فوق يد عمي أبي سعيد.. تلك اليد القوية رغم سنّه. إنها أول مرة لا يدعوني لأتناول معه القهوة عندما ألمس يده.. وأول مرّة لا أرى ابتسامته وشاربه الكث. كانت قطعة السقف كفيلة أن تخفي كل ذلك إلى الأبد. قطعة السقف تلك.. هي أقوى من ابتسامة عمّي أبي سعيد.
ما إن أخرجت عائلتي من الممر.. حتى سمعت أنيناً بجانب جثة عمي أبي سعيد. عدت إلى الداخل ووجدت الخالة أم سعيد تتنفس بصعوبة وفوقها الكثير من الحطام. رجتني بأنفاس متقطعة أن أسحبها من هناك. وما إن أمسكت بيديها حتى وجدتهما مشوهتين ومحروقتين إلى حد كبير، بقايا يديها تلك.. هي ذاتها التي كانت تعدني بالقهوة، هي ذاتها التي تحضّر أفضل قهوة في العالم. وهنا.. صرت أصرخ بدوري لأنادي من حولي، حتى استطعنا أن نحملها خارجاً.
وصلنا إلى بيت أهل زوجتي في الشارع المجاور. كان الصراخ قد ذبل.. وسكتت الحياة إلا عن بكاء أطفالي، ودعاء حماتي وصلواتها وقبلاتها ودموعها المجنونة بسلامتنا. أما أنا.. فكانت تلك اللحظة لي بداية صمت دام أياماً.
لم يكن لدينا شيء.. سيارة قديمة مع بعض الذهب في يد زوجتي. حتى ثيابنا احترقت مع المنزل ولم يبق سوى حزن على سبعة من الجيران قضوا في ذلك التفجير واثنين وعشرين جريحاً، وزوادة ذكريات لا نعيشها إلا مع غصة وخيبة. اشتريت تذاكر سفر وبعض الثياب وأقسمت ألا أبقى هنا يوماً آخر.
كان سفري في ذات اليوم الذي أقيم به عزاء خالتي أم سعيد. حطّت الطائرة في مطار “سوانابو” في بانكوك كأنها عبء ثقيل. تلك المدينة اللا متناهية والمغزولة بالرطوبة العالية وروائح الطعام التايلاندي الغريب. ما زالت تلك الرائحة تخيفني حتى اليوم، بالنسبة لي لا تختلف عن رائحة دخان البارود والنار وبقايا منزلي المحترق في المخيم. إنها رائحة ممزوجة بالخوف والصراخ والصدمة والمجهول.
كان هناك صديق بانتظاري.. وقد استأجر لي شقّة بحجم علبة كبريت في تايلاند الجديدة، داخل إحدى تلك الأبراج التي تضم آلاف العائلات. في بانكوك تجد كل شيء، إلا ابتسامة أبي سعيد، وفرصة عمل لأحد بمؤهلاتي.. وفكرة الوطن لشخص مثلي.
خسرت ثمانية عشر كيلوغراماً من وزني خلال ثلاثة أسابيع، وأنا أجري هنا وهناك باحثاً عن عمل.. عن باب لا يغلق في وجهي، عن أرض صلبة أبدأ منها رحلة ما. ولكن.. لا سبيل. فالتايلانديون هنا يحتكرون قطاع تعويضات الأسنان، ومنغلقون جداً على أنفسهم، كونه قطاعاً يشبه مناجم الذهب في مردوده.
بدأت النقود تجف من يدي مثل وزني تماماً. ورحت مثل المجنون أبحث عن أرض أخرى أستطيع العيش فيها كرجل عادي يخرج صباحاً إلى العمل ويعود ليرتاح بين أطفاله ليلاً.. كرجل يشتهي شراء الفطائر بداية الأسبوع لأن ابنته تحب الفطائر.
وكما كانت تايلاند ملاذي يوماً.. صارت جحيمي. في هذه الأثناء.. كانت مصر تمرّ بتقلبات كثيرة، وقد فتحت الباب أمام حملة الوثائق. مصر صارت حلمي، كيف لا وهي أم الدنيا وموطن كل عروبة. تحدثت مع صديق لي هناك.. ورتبنا بعض الأوراق على عجل وحجزت بكل ما تبقى معي تذاكر سفر إلى هناك.
بصراحة لم أعد أفكر من أين سآتي بالمال بعد وصولي إلى مصر.. ما يهمّني فقط، الهروب من هذا الكابوس الذي حبست نفسي داخله بعيون مفتوحة.
كان السفر في آخر يوم من تأشيرتي، ولم يكن أمامي خيار آخر للمجازفة وتفويت الطائرة. حزمت أغراضي وحمّلت أطفالي كثيراً من الوعود وقررنا النوم ليلتها في مطار “سوانابو”. وما إن فتحت نوافذ الجوازات.. حتى كنت الأول هناك.
قابلني الموظف بابتسامة خفيفة وطلب مني الجوازات. وهنا.. تغيّرت تلك الابتسامة بعدما قلّب الجوازات بضع مرّات. تحدّث إلى الموظف بجانبه.. ثم كلّم المسؤول، واجتمعوا ليتناقشوا بلغتهم، والجدية بادية على وجوههم. وبعد أن توصلوا لقرار.. حمل الموظف الجوازات وعاد إليّ تاركاً ابتسامته وراءه. هز رأسه بأسف.. وقال إنه لن يسمح لي بالعبور. كان ذلك بمثابة الصاروخ الثالث فوق سقفي. الصدمة ذاتها.. الضربة ذاتها.. والألم ذاته.. ولكن بصمت هذه المرّة. شعرت لوهلة بأن قطعة السقف التي أخفت ابتسامة عمي أبي سعيد قد سقطت عليّ وعلى أولادي الآن. انتابني غضب عارم.. ودخلت بنوبة صراخ غريبة، لكنها لم تغيّر شيئاً.. فقراره كان نهائياً. رجوته أن يتركني أدخل إلى قاعة الترانزيت.. وهناك قد أقدّم لجوءً من أي نوع.. فأنا في النهاية تعوّدت على اللجوء، ولا مكان لنا خارج جدران هذا المطار. ربما لن أصرخ أو أرجو بهذه الحرقة لو كنت وحدي.. ولكن أين أذهب بهذه العائلة معي. تحوّلت نوبة الغضب إلى فيروس معد طال جميع أفراد العائلة.. ولكن القرار اتُخِذ سلفاً ونظرة الأسف في عيون موظف المطار لن تغير شيئاً. وبعد ذلك الجنون كلّه.. وجدنا أنفسنا في مرأب المطار.. نمشي بلا هدى أو وجهة أو عنوان أو مال.
لم تختلف تلك الخطوات عن خطواتنا ونحن نهرب من تحت أنقاض البيت إلى المجهول. الشيء الوحيد الذي اختلف هنا. أنني كنت أدوس يد عمّي أبي سعيد في كل خطوة على هذه الأرض.. وكأنها فرشت بما تبقى من فتات منزلي هناك، بينما أحمل فوق رأسي وزن قطعة السقف تلك.
هل سمعت يوماً تلك الأغنية التي تقول “كهاربٍ ليس يدري من أين أو أين يمضي؟”. أنا ذلك الهارب ومعي زوجة وثلاثة أطفال. نهيم على وجوهنا في بانكوك، بلا وجهة أو سقف ننام تحته.. لا شيء سوى قطعة السقف التي تسحقنا تلك. قطعة السقف هذه تغطي جبّاً أُلقينا داخله ظلماً، فلا نأمل أن يرانا أحد.. أو يلتقطنا بعض السيّارة.
– للقصة تتمة –
(هذه السلسلة تقوم على أحداث حقيقية)