1

يوميات جندي في “الجيش العربي السوري” يرويها محمد الحصني

ظهور القائد يامن طه التزه (تدمر)

الشهادة مو نصيبي لأنو ما بيستشهد إلا الآدمي”. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها وأنا جندي نكتة من جندي عن الموت. نكتة أكسبته، بجسده الطويل وصوته الجهوري وشخصيته المستهترة بظاهرها والمتأنية في باطنها، كاريزما هائلة. وموضوع النكتة ذاته (الموت) يأتي على لسانه في لحظات الغضب “العودة إلى البيت كشهيد مدني، وأنا العسكري، عار في منطقتي.” لا بد أن نعلم أن يامن التحق بتشكيل القوى الرديفة من خلفية فار من الخدمة العسكرية التطوعية، وبالتالي كان انتظار تسوية وضعه وعودته إلى قيود الخدمة العسكرية عند الدولة بمثابة الجلوس على الجمر. جمرٌ لم نعرف يومها كم تبطن بين نكتته وغضبه فاختزل جانباً من شخصيته. رفض يامن أثناء الدورة تحمل أي مسؤولية قيادية، بينما ملاحظاته البسيطة كانت تدل على تجارب سابقة وغنية مع الموت. أقول تجارب لأنني من القلة التي حدثها عن هزائمه قبل انتصاراته. مَلَكَ مقدرة فائقة في جر أي مناقش له إلى جذور الرأي والفكرة المعارضة لفكرته، وهذه المقدرة جعلته متطرفاً في احترامه لأحدهم أو عدمه، ووصل به الأمر أن يطرد شخصاً ما من حضوره وبدون مقدمات.

كنا خريجي أربع دورات تلقت ذات التدريب وعلى يد مدربين مختلفين وتخرجنا في أيام متقاربة. مكثنا زمناً طويلاً ننتظر القائد لقوتنا، وأثناء هذا الزمن كانت تقسيماتنا لمجموعات والمسؤولين عنها مزحة لمن سيكون في المقدمة أو المؤخرة أو لمن هو ثقة أو (ليكن بعيدا قدر الامكان)، سوى ذلك، كانت كل دورة تتباهى بمقدار الصعوبات التي واجهتها في التدريب والخبرات المكتسبة. تقسيمات وتفاخر كان ينتظر محك التجربة.

جاء القائد الذي سيدير هذه القوة (ج . ص) وكان قائداً وإنساناً صادقاً بالمعنى البصير للكلمة. كانت مهمته الزج بهذا النوع من القوات في مهام ومحاور تناسب عددها وإمكانياتها ونوعيتها في الانضباط.

انتقلت قوتنا إلى تدمر، مكان مهمتنا الأولى، وبتاريخ 8 تموز 2015 كانت مهمتنا الناجحة الأولى عند اقتحامنا البيارات الغربية، وهنا ظهر اسم يامن عندما تحمل بشخصه المسؤولية أمام خطر موتٍ تخاذل البعض امامه. قبل المهمة بساعات تجادل قادة الدورات لمن ستكون المهمة الاولى والكل يريدها لدورته، ووسط مبالغات كان يقرفها يامن، فرضت الدورة الاولى نفسها وكنا الدورة رقم 2. بعد مسير طويل وصلنا إلى تلة صغيرة تتقدم منحدراً طبيعياً توزعت مجموعاتنا كلها فيه. رافقتنا سيارة دوشكا ودبابة. والمهمة؛ السيطرة على مزرعة بساتر طوله 3 كم وطبيعة الارض الفاصلة بيننا شبه مستوية بما لا يسمح بتقدم محمي بالتضاريس. انطلقت الدورة الأولى وانتشرت بشكل عرضاني وعلى مسافة عشرة امتار تعرضت لرشقات نار عالية تعامل معها، في محاولة إسكاتها، جندي سلاح الدوشكا. ولكن المجموعات المتقدمة جميعا انبطحت أرضا ورمت سلاحها امامها ورفضت المتابعة، وبدون اي فائدة من نداءات القائد (ج .ص) أنْ لا خطر عليهم. كان يامن إلى جانب القائد غاضبا ويطلب الأمر بالتقدم والقائد يتريث، وفجأة اندفع يامن راكضاً واندفع خلفه، واحداً وراء الآخر من دورتنا، ما لم يتعدى 15 جندي. اذكر أنني كنت الرابع أو الخامس. ركضنا منتشرين بشكل عرضاني ويامن يصرخ فينا أن نباعد المسافات بيننا. وكلما اقتربنا من الساتر بدأ البعض بإطلاق النار على الساتر والآخر بالركض تناوباً حتى وصلنا إلى الساتر. فشاهدنا مسلحي تنظيم الدولة منسحبين بسياراتهم على مسافة بعيدة، فبدأ الصراخ والضحك والعواء الهستيري. هل هؤلاء هم الدواعش حقا؟ لقد رأيناهم ينسحبون!

دخل يامن ومعه جنديان إلى المزرعة المكونة من بيتين وخيمة. انتظرناه عند الساتر، رجع ضاحكاً ويحمل قطعة بطيخ. وصل الجميع إلى الساتر، وتابعنا برتل طويل تقدمنا باتجاه الميسرة حتى دخلنا قرية البيارات الغربية وسيطرنا على مستودع لطعام المسلحين الذي كان معلبات متنوعة مصنوعة في السعودية حصرا! وبصراحة عفشت عدة كتيبات من عقائدهم وعقود زواج وخلافه عليها خاتم الدولة الاسلامية.

استرحنا في الإرشادية الزراعية في البيارات عدة أيام لتبدأ مهمة جديدة، انطلقنا لها في سيارات حتى وصلنا إلى جبل يطل على مدينة تدمر وقلعتها البعيدة. نزلنا من الجبل مشياً بمجموعات، وقطعنا الطريق لنصل إلى بداية المزارع ونبدأ التغلغل فيها. كانت مسؤولية مجموعة يامن الجهة اليمنى على ما اذكر، وكنا نعلم بوجود قوة صديقة تقدمت على يسار محورنا أيضاً. تجاوزنا كروم الفستق الحلبي حتى اقتربنا من كتلة بناء قريبة وكأنها مستودع لمواد خام صناعية. نتفاجأ بظهور شخصين على بعد 200 متر منا بلباس عسكري غريب. صرخ يامن بهم (انتو مين؟) جاء الجواب (انتو مين) ومع شتيمة يامن البذيئة بدأت بنادقنا ترميهم بغزارة بينما دخلا دغلاً كثيفاً بلمح البصر. ركضنا إلى الدغل ومشطناه بالرصاص.. لا أحد. تفقدنا المستودع ومحيطه وسلمناه لمجموعة جاءت بعدنا وتابعنا ننتقل من كرم إلى آخر ومن بيت ذي فناء وساحة إلى آخر، حتى وصلنا إلى اقصى الجهة اليمنى ونهاية المزارع. عثرنا هناك على بناء من اللُبن مستطيل الشكل يحتوي قذائف هاون وألغاماً ارضية. انتشرنا لتأمين المنطقة فجاء على واسطة الاتصال العسكرية أن احدى مجموعاتنا محاصرة في بيت وتطلب تدخل مجموعة يامن لفك الحصار عنها. انتقى يامن بعضنا وانطلق اليهم. علمت فيما بعد بنجاح فك الحصار عنهم وتم التصدي لمجموعة مسلحة قادمة مع سيارتها. الطريف أنه تم محاصرة مجموعة مسلحة في احدى الفيلات وأن شبابنا المحاصرين لهم كانوا ينادون بعضهم بالكنى المحببة “يالله ابو جعفر” “دير بالك يا ابو علي” “خليك مع محمد يا ابو اسد” والمسلحين المحاصرين باسطوانتهم المعتادة يصرخون “جئناكم بالذبح يا خنازير الأسد” حتى سمعونا ننادي أحد عناصر هندسة الجيش كبير السن بأبو خالد. فأصبحوا ينادونه بإسمه يا أبى خالد .. يا أبى خالد. فكأن جنونا مسهم عندما رد عليهم (انا ابو خالد شو بدكون؟) ردوا: سنقطع رأسك يا خنزير.

بدأ التعثر مع ساعات غروب الشمس، لم تستطع اي سيارة النزول إلينا لتحمل عوضاً عن الذخيرة التي استهلكناها بالإضافة إلى الماء والطعام، كما أن طلباتنا بضرب المزرعة والمحاصرين فيها بأي سلاح ثقيل من الجبل ذهبت ادراج الرياح. كان الانتشار والبقاء بخط دفاعي في البيوت المزارع وبالذخيرة المتبقية معنا بمثابة انتحار جماعي، وشخصيا كان قد بقي معي 50 طلقة فقط.  انتظرنا حتى هبوط الليل وعدنا إلى المزرعة الرئيسية ونحن نسمع الوضع على الواسطات العسكرية. اكتشفنا أن الجميع قد ترك نقاطه وتجمهر في المزرعة، ويامن وسط صمت الجميع يحاول اقناع القائد (ج . ص) بالانسحاب وعدم جدوى البقاء والقائد يصر على البقاء ولو وحيداً. بقي التجاذب بالرأي ساعتين إلى أن بدأ المقاتلون بالانسحاب فرادى ومجموعات باتجاه الجبل. وبدأنا نجر قائدنا جرا فكان ويامن آخر المنسحبين في العاشرة ليلا، ونمنا ليلتنا في الجبل. رغم خروجنا بجريح واحد إلا أنها أول هزيمة لنا وكان أثرها محبطاً لأننا لم نقصر. علمنا أن محطة التلفزيون الرسمية وقت اقتحامنا نقلت خبر سيطرة الجيش على مدرسة السواقة ومثلث تدمر، كان الخبر يتحدث عنا ولكننا انسحبنا، وأكثر ازعاجاً أننا عرفنا في اليوم التالي صباحاً بعدم وجود قوة صديقة تعمل على ميسرتنا أو ربما لم تقدر. أذكر أن يامن عالج احباطنا بقوله أن الدخول بهذا الشكل كان بالتأكيد جنوناً غير محسوب وخطأً عسكرياً وبالتأكيد العدو يفكر ملياً من هؤلاء المجانيين ويحسب ملياً حساب القادم، وأننا لو كنا نعلم بطبيعة الدخول بهذا الشكل كالمسمار وسط في وسط معادي لشاهدوا جنوناً لم يتذوقوا منه سابقاً، وكان هذا التحليل البلسم الشافي لنا .. ألسنا المجانين!

عدنا إلى مركزنا في البيارات الغربية سعداء لاقتراب يوم الاجازة. نعلم قبل يوم منها أن يامن مكلف باختيار فريق لمهمة ليلية، فطلب التقدم لمن يريد الاشتراك بها. ازعجني جداً أثناء الانتقاء أنه تجاوزني رغم أنني كنت بين الواقفين، تقدمت واحتججت على عدم اختياري، سألني لماذا أريد الاشتراك؟ أخبرته أنني لن أتركه وأصدقاءنا وحيدين في المهمة، فاخبرني أن أجهز نفسي. لا بد من الاعتراف أن عيني الجندي أيمن زويد المباركتين قنصتا بطيخة على أحد حواجز الجيش فلا ندري إلا والسيارة تمشي وهي معنا مسروقة، شكرا لهم وليسامحونا. وصلنا وكانت المهمة السيطرة على ساتر بطول 2 أو 3 كم. للأسف لم تبدأ المهمة الليلية إلا مع الفجر، وإذ بالساتر يمتد على مسافة 5 كم وبخندق بعرض 2×2 متر. رغم نجاح المهمة كان الموقع خارج مدى استخدام وسائل الاتصال العسكرية لنبلغ عن نجاحنا، حيث كانت قوة مؤازرة ستأتي لتثبت معنا ليلتها، وبالتالي لم تأتِ.

بقي الموضوع طبيعياً حتى تعرضنا لقذيفة هاون أصابت بشظية منها الشهيد أحمد جابر سلوم (أبو العباس( صديق يامن المقرب من غير دورتنا وهو مثله جسداً وعكسه طباعاً. زاد الوضع سوءاً عندما شاهدنا سياراتهم في الأفق تتقدم باتجاهنا وليس بين ايدينا إلا أسلحة خفيفة. انفعل يامن وخاصةً بعد اصابة أبو العباس فانفعل الجميع وتخاذل البعض خوفاً من أداء المهم الموكلة له، فازداد الضغط على من ينفذون اضعافاً. كالعادة بدأ النقاش بين يامن والقائد ج. ص من أجل أمر الانسحاب. تحول النقاش إلى شجار غاضب من طرف يامن الذي لم اشاهده بهذا الشكل سابقاً، وصل الأمر به أن أطلق النار عند قدمي القائد ليدفعه للمشي فأجابه القائد بطفولية معاتبة ادهشتني (عم تقوص عليّ يا يامن) اخبرت يامن أن يسحب الشباب وسأبقى مع القائد اقنعه ولو اضطر الامر إلى سحبه بقوة السلاح. جلستُ إلى جانب القائد وأخرجت قلادة من رقبتي وعليها شعار الزوبعة للحزب السوري القومي الاجتماعي وسألته هل يعلم معنى هذا الشعار؟ اختصر بقوله (على راسي والله) أخبرته أنني ابن عقيدة دم تعرف متى يحين موعد تقديم الوديعة وهو ليس اليوم وليس بهذا الشكل. أخبرني أنه كقائد ولديه مسؤولين وسيسمع منهم كلاماً لن نسمعه نحن وأننا نعرف ماذا جرى والأقدر على حديث لا يقوله، فعاهدته أننا سنتحدث بما جرى تماما. لان قليلا ورجعنا سوية.

فعلاً جاء قائد لا أعلم من هو وتحدث عابساً عن انسحابنا فانفجرنا كالأطفال بوجهه نخبره الذي جرى وخاصةً موضوع الواسطة التي لا يجيب عليها أحد. صمت وانتحى بقائدنا جانباً وتهامسا. ثمة مشهد لا انساه قبل عودتنا بالسيارات الى المركز، قعد القائد ج. ص على الأرض وسند ظهره إلى الحائط ونام فاستخدم ما لا يقل عن 8 جنود ساقيه كمخدة وناموا.

إذا كانت مهمة تدمر بدايةً لظهور شخصية يامن القائد المندفع، وبداية منحه ثقةً مطلقة لم يطلبها بل تقدم اليها، فإن المهمة الثانية هي التي جعلت القائد يامن يحلق عاليا كأسطورة نارية تتغلب على الموت والعبث.