1

يقتلونه ويصلّون عليه

اسامه المهتار

من أصعب المشاهد المرافقة لمأساة جورج زريق، رؤيته مجثى في الكنيسة التي قتل نفسه لأن المدرسة التابعة لها رفضت إعطاءه إفادات مدرسية بسبب عدم تسديده لمتوجب مالي. كان حريا بعائلته مقاطعة تلك المؤسسة الدينية التجارية كما هو حري بكل إنسان مقاطعة المؤسسات الدينية التجارية السياسية التي تتحكم بمصير الناس وتمتص دماءهم، ولكن الخوفَ غلابٌ.

في مقال بعنوان طائفة العلماني ودولة الطائفي، نشرته مجلة “فولتير” الإلكترونية سنة 2005، كتبت ما يلي:

“… في بلد طائفي مثل لبنان تتمحور حياة المواطن في طائفته لا دولته. فهو يولد في مستشفى للطائفة، ويتعلَّم في مدرسة تابعة لها، ويتابع دراسته في جامعة أسَّستها، ويوظَّف في الدولة ممثِّلاً لها، أو في مؤسَّسة خاصَّة مرتبطة بها في معظم الأحوال. وحين يريد الترويح عن النفس يبحث عن محطَّة تلفزيون خاصَّة بها. وعند الحاجة ينضمُّ إلى “ميليشيا” تابعة لها، فيرسم صورة وليَّه أو قدِّيسَه المفضل على أخمص بندقيَّته، ويستشهد في سبيلها، ويدفن في مقبرتها.”

مأساة جورج زريق هي أنه دفع معظم فواتيره لمؤسسته المذهبية ولكنه لم يحصل منها حتى على أصغر مستحقاته. ولكن كيف تتمكن هذه المؤسسات الدينية من خَنّاق الناس بهذا الشكل. إنها تفعل ذلك عبر الخوف من “خطيئة أصلية” عند نفر، والخوف من اختلال ميزان الحسنات والسيئات في اليوم الآخر عند نفر، وفق ما راكَمَهُ رجال الدين من سنن وشرائع على مرِّ العصور.

“لماذا تركّز الكنيسة على الخطيئة الأصلية وليس على الفضيلة الأصلية؟” سؤال غير بريء سأله إبراهيم متري رحباني في آخر كتاب له، “الترجمات الخمس ليسوع“. إنها تفعل ذلك لتبقي الناس في حال من الخوف والشعور غير المبرر بالذنب. هل صحيح أننا ولدنا في الخطيئة، ولماذا؟ شخصيا، لا أعتقد ذلك. ولكن الفضيلة لا تطعم خبزا لتجار الخوف والذنب. الخلاص السحري من الخطيئة هو ما يطعم مالا وأضاحٍ ونذورا. النتيجة المنطقية التي وصل إليها رحباني تختصر بالعبارة التالية من نفس الكتاب، “مشكلة يسوع آنه نبي وقع بين أيدي كهنة.” وهي دائما مشكلة من يأتي ليحرر الناس من عبودية الخوف فيصلب على صليب من شراك الكهنة وجهل العامة.

هناك خوف آخر تستغله المؤسسات الدينية وهو خوف دنيوي. إنه الخوف من أتباع المذهب الآخر. والخوف نتيجة الجهل، والجهل وقود الحركات المذهبية. هذه هي إذا المطحنة، أو قل المحرقة، التي تطحن بها المؤسسات الدينية التجارية السياسية عظام اتباعها قبل سواهم، ومن ثم تصلي على ما يتبقى من أشلائهم، أو رمادهم.

والمخرج؟ إلى أين يتوجه المواطن للخلاص من هذا العذاب؟ هل يمكن له ان يعتمد على الدول الأجنبية لتساعده في إقامة دولة علمانية مثلا؟ نعود إلى كتبته سنة 2005:

“أضف إلى ذلك أن لا مصلحة للدول الخارجيَّة بما فيها تلك العلمانيَّة مثل فرنسا والولايات المتَّحدة أن تقوم دولة علمانيَّة في بلد مثل لبنان. فالطائفيَّة هي منفذ هذه الدول العلمانيَّة إلى بلادنا لتحقيق مصالحها فيها. من مصلحة الشعب في لبنان أن تقوم دولة علمانيَّة على مبدأ المواطنة والمساواة في جميع الحقوق والواجبات. ولكن هل يمكن أن ننتظر من الطقم السياسي الطائفي، الذي يبحث عن دول ديمقراطية وعلمانية تدعم مشروعه الطائفي في لبنان أن يبني هكذا دولة؟ لا نعتقد. فمن الشوك لا يُجنى عنب، والطقم السياسي اللبناني ليس في وارد الانتحار.”

لا، الطقم السياسي اللبناني ليس في وارد الانتحار. أما اللبنانيون فيفعلون ذلك أفرادا وجماعات، ولن يتوقف الانتحار والموت البطيء طالما أن المواطن يسلم دنياه وآخرته لمن يستغل خوفه في دنياه ومن أخرته. هل كان مصير نفس جورج زريق سيتغير لو ان عائلته رفضت أن يُصَلّى عليه؟ لا نعتقد ذلك، ولكن من المؤكد أنها كانت وفرت على نفسها بعض المال وكثيرا من الكرامة. هل من قيمة مضافة للمؤسسات الدينية التجارية السياسية في حياة الناس؟ أبدا. هل تجوز مقاطعتها؟ في رأينا أن مقاطعتها واجب أخلاقي.

نحن لم نسمع بجورج زريق قبل موته المأساوي. ولكن من المؤكد أننا لن ننساه. إننا نحزن عليه ونحزن على عائلته، ولكننا نأمل ان يكون في موته عبرة.

قاطعوا معذبيكم واحجبوا أموالكم وصلواتكم عنهم. إنهم لا يستحقون منكم سوى كل ازدراء.