وطنُ الأساطير (3)
الصهيونيَّة المسيحيَّة، واليهوديَّة، والمحمديّّة والطريق إلى فلسطين
كنا قد أوضحنا في الجزء الأوَّل من سلسلة “وطن الأساطير” كيف أشهرت الحركة الصهيونيَّة أسلحتها الفتاكة في وجه كلّ من حاول التَّشكيك بروايتها عن (الوطن اليهودي)؛ ومن أجل ذلك ابتدعت تهمة معاداة الساميَّة إلى جانب غيرها من الوسائل التي أسكتت فيها أصوات المشككين بروايتها، ووضحنا في الجزء الثاني من السلسلة ماهية هذه الرواية ومكوناتها ومكانتها تبعاً إلى الأدلة التاريخيَّة والأثريَّة المكتشفة بناءً على التنقيبات الأثريَّة في المنطقة، مع موجز بسيط جدّاً عن تاريخ فلسطين والمنطقة عموماً، بعيداً عن الرواية التوراتيَّة وعلى أساس المكتشفات الأثريَّة.
في هذا الجزء سنتحدث عن الجذور التاريخيَّة للرواية الصهيونيَّة، وعن كيفية نشأتها وما الذي استندت إليه، وصولاً إلى توضيح كيف استطاعت بناءً على ذلك إغفال الأجزاء الأهم من تاريخ فلسطين القديم، والتي تتناقض مع الرواية التوراتيَّة، واختصار هذا التاريخ على الحقبة التي تدّعي التوراة أنَّها هي التاريخ.
في العام 1655 دعا السياسي البريطاني “أوليفر كرومويل Oliver Cromwell” رئيسُ المحفل البوريتاني بين عامي 1649-1659 إلى عقدِ مؤتمر يسمح لليهود بالعودة والسكن في المملكة البريطانيَّة، وذلك بعد نفيهم منها بقرار الملك إدوارد الأوَّل عام 1290، وخُلِقَ في هذا المؤتمر -وللمرة الأوَّلى- الرابط ما بين أفكار الصهيونيَّة المسيحيَّة والمصالح الاستراتيجية لبريطانيا، والتي دفعت “كرومويل” إلى النداء باكراً بواجب توطين اليهود في الأراضي المقدسة في فلسطين.
في الحقيقة؛ لم تكن دعوة “كرومويل” هي الأوَّلى من نوعها، غير أنَّ خطورتها تكمن في أنَّها دمجت بين الإيديولوجيا والسياسة، واعتماد بريطانيا من أجل توطين اليهود في فلسطين على المصلحة الاستراتيجية لها، وقد سبقها عدد كثير من الخطوات، ويُمكن القول أن أوَّلى هذه الخطوات المنظمة كانت “تيار الألفية Millenarianism” الذي ظهر في القرن الأوَّل للمسيحيَّة، وتوسع على أيدي اليهود الذين دخلوا المسيحيَّة خصوصاً من بلدان إسبانيا، وهولندا، ومعظم دول أوربا الشرقيَّة.
ويقوم التيار على عقيدة عودة المسيح إلى هذا العالم محاطاً بالقديسين ليملك في الأرض ألف سنة، ولذلك سمي التيار بـ تيار الألفية.
تلقى هذا التيار الدفعة الأقوى كي يتطوّر بصورةٍ أوسع، وليصبح فيما بعد مذهباً دينياً كبيراً عندما ظهرت حركة الإصلاح الديني في أوربا، وخصوصاً بعدما نشر “مارتن لوثر Martin Luther” كتابَه (يسوع المسيح ولد يهودياً Jesus Christ was born a Jew) في العام 1523، وتبنى فيه “لوثر” العقيدة نفسها على الرغم من انتقاده اليهود فيما بعد في مواضع عديدة، ولكن هذا لم يمنع أن يصرّح “لوثر” بأنَّ اليهود هم شعب الله المختار، ويجب أن يعودوا إلى وطنهم.
تطوّرت الصهيونيَّة المسيحيَّة بوصفها فكراً في أوربا؛ لتغوص عميقاً في وجدان الشعوب الأوربيَّة، ويمكن تجلي تجذر هذا الفكر من خلال كتابات كثيرٍ من المفكرين والأدباء على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الدينيَّة، فقد كتب “جون ميلتون John Milton” قصيدته الشهيرة (الفردوس المفقود Paradise Lost )، والتي عبّر فيها عن إيمانه بالعصر الألفي السعيد عبر إعادة اليهود إلى فلسطين عن طريق قوة خارقة، أمَّا السياسي الإنكليزي الصهيوني “هنري فينش Henry Finch” فقد نشر في العام 1621 كتابَه (بعث العالم الجديد The world’s Great Restauration)، ودعا فيه إلى عودة اليهود وكل ممالك الأرض إلى دين المسيح على الأراضي المقدسة، وفي السياق نفسه ذهب كثيرٌ من الفلاسفة والمفكرين مثل “جوزيف بريستلي Joseph Priestley” الذي كان أوَّل من تصوّر أنَّ فلسطين أرض غير مأهولة بالسكان، وتمنى أن يجمع اليهود ويعيدهم إلى وطنهم، ويجعلهم أكثر الأمم شهرة، أمَّا “اسحق نيوتن Isaac Newton” فقد ذهب إلى وضع جدولٍ زمني للأحداث التي سوف تؤدي إلى عودة اليهود إلى فلسطين انطلاقاً من نبوءات التوراة، وذهب “جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau” صاحب نظرية العقد الاجتماعي إلى القول بأنَّنا لن نعرف الدوافع الخفيَّة لليهود أبداً حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجامعاتهم.
وفي العام 1807 أُقيمت في إنجلترا جمعية لندن لتعزيز اليهوديَّة على يد “أنتوني أشلي كوبر– إرل سافتسبوري السابع Anthony Ashley-Cooper, 3rd Earl of Shaftesbury”، وهو أوَّل من استخدم تعبير (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، مروراً بانتقال الصهيونيَّة المسيحيَّة إلى أمريكا هرباً من الاضطهاد الكاثوليكي مع الهجرات المبكرة ودعوة “نابليون بونابارت” إلى توطين اليهود في فلسطين تعزيزاً للمصالح الأوربيَّة في منطقة الشرق الأوسط.
إذاً نكتشف أنَّ الفكر الصهيوني في بداياته قد نشأ مسيحياً لا يهودياً، وبقي يتراوح ما بين العقيدة والسياسة لحين تبني اليهود الصهيونيَّةَ فكراً وسياسةً عبر حركةٍ سياسيةٍ إيديولوجية منظمة على يد “تيودور هرتزل Theodor Herzl“، الذي استطاع قراءة المصالح الاستراتيجية للدول الأوربيَّة العظمى في ذلك الوقت، والمتمثلة بصورةٍ أساسيةٍ في تقسيم تركة الرجل المريض (الإمبراطوريَّة العثمانيَّة)، مع ضمان عدم ظهور كيانٍ سياسي آخر وكبير في المنطقة يُمكن أن يتوسع باتجاه أوربا كما الإمبراطوريَّة العثمانيَّة سابقاً، ووضع أوربا يدها على مقدرات شعوب هذه المنطقة وثرواتها، والقضاء على أيّ محاولات وحدوية أو تنموية. هذا ما يُفسر استنفار أوربا بأكملها في وجه محاولةِ “محمد علي باشا” إنشاءَ دولةٍ حديثةٍ ذات طابعٍ إسلامي، لأنَّ امتلاكها لثروات هائلة، وامتدادها على مساحات واسعة سوف يقضي على آمال هذه الدّول في السيطرة على المنطقة.
وبذلك تلاقت مصالح الدّول الأوربيَّة مع مصالح الحركة الصهيونيَّة اليهوديَّة في بناء دولة لليهود على أراضي فلسطين، وكان من السهل تبرير ذلك استناداً إلى العقائد الصهيونيَّة المسيحيَّة.
لم يخرج الأمرُ بالنسبة للصهيونيَّة المحمّدية عن السياق ذاته، سياق استغلال تقاطع المصالح السياسة واستخدام الإيديولوجية لتبرير ذلك، وإن كانت المصالح السياسية قد أخذت طابعاً أضيق.
وكما أنَّ القصة في المسيحيَّة قد بدأت مع اليهود الذين دخلوا المسيحيَّة، فالشيء نفسه حصل في الإسلام المحمدي، ومع اليهود الذين دخلوا فيه، وهذه العملية مرَّت بمراحل متعددة وبظروف عديدة أسهمت جميعها في تغلغل اليهود المسلمين. ويُمكن القول إن أولى هذه المحاولات قد بدأت في أثناء وجود النبي محمد على قيد الحياة، حين دخل كثيرٌ من يهود المدينة المنورة في الإسلام المحمدي، واشتهر منهم على سبيل المثال: عبد الله بن سلام، وأسد بن كعب القرظي، وأسيد بن كعب القرظي، ويامين بن عمير، وصفية بنت حيي بن أخطب التي تزوجها النبي محمد وأصبحت من أمهات المؤمنين، وهي ابنة سيد بني النضير حيي بن أخطب، وصولاً إلى كعب الأحبار وهو الأكثر جدلاً بين المحدثين؛ إذ عُدَّ من التابعين، وله روايات في الحديث وتفسير القرآن، ويرى كثيرٌ من الدَّارسين للعلوم المحمديّة أنَّ كعب الأحبار كان أوَّل من بدأ بدس ما يُعرف في الفقه الإسلامي “بالإسرائيليات”، والتي ألصقت كثيراً من القصص التوراتيَّة بالدين الإسلامي، وأخذت تفسر كثير من الآيات القرآنيَّة باتجاه التطابق مع الرواية التوراتيَّة.
لم يكن كعب الأحبار اليهودي الوحيد الذي دخل الإسلام، ووصل إلى هذه المكانة المتقدمة في الفقه والتُّراث الإسلامي. ففي التاريخ الإسلامي يمكننا أن نجد كثيراً من اليهود الذين دخلوا الإسلام واستطاعوا أن يصلوا إلى مراتب عليا في الدولة، ومنهم على سبيل المثال: وهب بن منبه وهو تابعي أيضاً وراوٍ للحديث، والرؤاسي وهو نحوي ولغوي وشاعر، وهارون بن موسى النحوي وهو عالم لغوي وفقيه محدث، وسند بن علي وهو طبيب وفلكي ورياضي عاش في قصر المأمون، وابن ملكا البغدادي وهو طبيب وفيلسوف عاش في قصور الملوك العباسيين معظم حياته، والسموأل بن يحيى المغربي وهو طبيب وعالم رياضي ومهندس ووالده حاخام كبير في المغرب، ويعقوب بن كلس وقد كان وزيراً للعزيز بالله الفاطمي، أمَّا سعيد بن حسن الإسكندراني الذي أسلم وألَّف كتاب اسمه (مسالك النظر في نبوة سيد البشر) والأخطر وأكثرهم إثارة للجدل بعد كعب الأحبار فهو موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي ومستشاره وغيرهم…
وقد شهد الإسلام المحمدي موجتين كبيرتين لدخول اليهود فيه، الأوَّلى عندما طُرِد المسلمون واليهود من الأندلس واستقر معظم هؤلاء في المغرب، فمنهم من بقي على دينه ومنهم من دخل الإسلام، وكثيرون غادروا المغرب واستقروا في “سالونيك” اليونانيَّة ليهاجروا فيما بعد باتجاه بلاد الشام وهناك ادعوا الإسلام وعاشوا في المجتمعات الشامية على أنَّهم مسلمين، وكانت هذه هي الموجة الثانية.
هؤلاء اليهود جميعهم كانوا من “السفارديم” الذين يحملون حقداً قديماً نتيجة عقودٍ من الاضطهاد وعدم الاستقرار في أوربا، على عكس يهود “الأشكيناز” الذين كانوا قد عاشوا في مجتمعات المشرق بسلامٍ واستقرار على مدى العصور؛ ولذلك لاقت الصهيونيَّة في البداية صعوبةً كبيرةً في أقناعهم بمشروعها في إقامة دولة خاصة باليهود على أرض فلسطين، خصوصاً أنَّ كثيراً من اليهود ما يزالون حتى اليوم يؤمنون بأنَّ الله قد حرم عليهم أن يصنعوا دولة خاصة بهم، ولذلك نجد أيضاً عدداً من الحركات اليهوديَّة المناهضة للصهيونيَّة.
استطاع المسلمون من أصولٍ يهودية أخذ الرواية المحمديّة باتجاه تبني فكرة مملكة داوود العظيمة التي يزعمون أنها قامت على أرض فلسطين، وخَلَفَه فيها ابنه الملك سليمان. ويحفل التُّراث الإسلامي بقصصٍ تبالغ في تفخيم داوود وسليمان وتعظيمهما، وتظهرهما مَلكين عظيمين لمملكةٍ عظيمةٍ، تماماً كما صنعت التوراة. كذلك نجد في التُّراث الإسلامي كثيراً من الصفات والقدرات العجائبية لهذين الشخصين وغيرهما من ملوك التوراة، وساعد في ذلك ذكرهم في بعض المواضع في القرآن، والتي تتحدث عن هذين الرجلين فتصفهما بالنبوة وبأنَّهما من أنبياء الله، إضافةً إلى حديث القرآن عن اليهود وعن بني إسرائيل العبرانيين بجعلهما فئةً واحدةً دون تمييز بين أي منهما أيضاً في كثيرٍ من الآيات الواردة في سوره.
تزامن نشاط الصهيونيَّة المحمديّة المكثف مع نشاط مثيلتيها المسيحيَّة واليهوديَّة في أوربا، وظهرت للمرة الأوَّلى حركةً منظمةً تركت أثراً كبيراً في تغيير مسار الأحداث بصورةٍ كبيرةٍ في المنطقة وهي حركة “شبتاي تسيفي” اليهودي المتشبع بفكر القبالاه اليهوديَّة، والذي أعلن نفسه المسيح المنتظر ثمَّ دخل في الإسلام تفادياً لتنفيذ حكم الإعدام فيه بعد القبض عليه ومحاكمته، وكذلك فعل الآلاف من أتباعه وسُموا فيما بعد بيهود “الدونمة”. وقد استطاع هؤلاء التغلغل عميقاً في مفاصل الإمبراطوريَّة العثمانيَّة وفيما بعد تأسيس (جمعية الاتحاد والترقي) التي أسقطت الخلافة المحمديّة، وأقامت الدولة التركيَّة الحديثة.
وكما أنَّ الأمور لم تكن سهلة للصهيونيَّة المسيحيَّة واليهوديَّة في أوربا، فإنها لم تكن سهلة كذلك بالنسبة للصهيونيَّة المحمديّة في بلاد المشرق. فعلى الرغم من استطاعة الصهاينة التغلغل في مفاصل صناعة القرار السياسي في الدولة العثمانيَّة، فإن الأمور لم تكن سهلة بالنسبة إليهم، وكان الطريق أمامهم يعتريه كثير من العقبات. لقد كان على الصهاينة المسلمين الانتظار إلى حين حلول الفرصة المناسبة، وهو ما حصل فعلاً عند اندلاع الحرب العالمية الأوَّلى، وإعلان “الشريف حسين”، حاكم الحجاز والأراضي المقدسة، قيام الثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني لبلدان الشرق الأوسط.
تجلت الصهيونيَّة المحمديّة تماماً في موقف “الشريف حسين” من التغلغل البريطاني والفرنسي في المنطقة القائم على أساس الاتفاق المعقود بينهما والمعروف باتفاقية” سايكس- بيكو”، والذي تقاسما بموجبه مناطق السيطرة والنفوذ في المشرق السوري. وكشفت المراسلات التي جرت بين “الشريف حسين” والممثل الأعلى لبريطانيا في مصر السير “هنري مكماهون” استعدادَ “الشريف حسين” غضّ النظر عن المشاريع البريطانيَّة في فلسطين بمقابل الاعتراف به ملكاً على العرب، والاعتراف بأبنائه ملوكاً على العراق وبلاد الشام، ونتيجة لذلك تم الكشف عن اتفاقية فيصل- وايزمان التي كانت في السياق ذاته.
أعطى موقف “الشريف حسين” إشارةَ البداية للحركة الصهيونيَّة العالميَّة كي تبدأ بتنفيذ مشروعها في إقامة دولةٍ لليهود في فلسطين، ولاحقاً نجد موقفاً صهيونياً مماثلاً يتجلى في موافقة الملك فيصل بن الحسين بن علي الصريحة على إقامةِ وطن قومي لليهود في فلسطين.
هذان الموقفان من شخصيتين مفصليتين على المستوى السياسي والدين الإسلامي يمثلان ذروة الصهيونيَّة المحمديّة في استثمار الإيديولوجيا لصالح المكاسب السياسية.
نجد الأمر نفسه في مصر إبان حكم “أنور السادات“؛ إذ لم يكتف “السادات” بالذهاب إلى القدس المحتلة وتوقيع اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني؛ بل رافق ذلك حملة تحريض واسعة ضد الفلسطينيين، شملت شيطنة الشخصية الفلسطينيَّة في وسائل الإعلام المصريَّة. إنه يشبه كثيراً ما يحصل اليوم في جمهوريَّة مصر العربيَّة والمملكة العربيَّة السُّعوديَّة من شيطنةٍ للفلسطينيين، وتحريضٍ ضدهم في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، فمثلاً اليوم -وفي أثناء إعداد هذا المقال- يعدُّ وسم (فلسطين ليست قضيتي)، أحد الوسوم الأكثر تفاعلاً في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن خلال التجربة أصبح بإمكاننا توقع حدث تطبيعي جديد مع الكيان الصهيوني بالتزامن مع الحملة ضدَّ المسألة الفلسطينيَّة والفلسطينيين.
ولكن؛ ما علاقة هذا كلّه بتزوير التاريخ الفلسطيني؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في العدد القادم.