نظرة شاملة الى الحياة والكون والفن- شحادي الغاوي
في الحلقة السابقة من هذه السلسلة قلنا إن الجديد الذي تقدمه المدرحية، كفلسفة، هو فكرة التفاعل. أي أن القوى المادية والروحية في الحياة هي فاعلة معاً ومتفاعلة دائماً في كل شأن من شؤون الحياة الانسانية. وقلنا إن الفلسفات المادية، أو الروحية، لا تنكر وجود الروح، أو المادة، ولكنها تنكر أي دور فاعل لها في التاريخ، أي في سير الحياة وتطورها. وهذا معناه أن القضية الفكرية الاساسية أو المضمون الجوهري الاساس في المدرحية هو فكرة التفاعل أي الفعل المتبادل للقوى المادية والروحية في الاجتماع الانساني. وقلنا أيضاً أن المقصود “بالروح” ليس هو الدين أو الماورائيات بل هو القيم المجتمعية الانسانية الموجودة في هذا الوجود، أي القيم التي “لا تقاس بالسنتيمترات أو بالامتار المربعة أو المكعبة ولا توزن بالأواقي ولا بالارطال ولا تحد بمكان أوزمان معيّن مع كونها قيم إنسانية نفسية- قيم مجتمعية” (نظرة سعادة الى الانسان- الاعمال الكاملة ج 8 ص 174). وقد ذكرنا منها قيم الحق والحرية والوعي والمعرفة والعلم والثقافة والاخلاق والإيمان والإرادة…الخ.
ولم نكن لنحتاج الى قول ذلك لولا أن بعض الدارسين يظن أن مسألة المدرحية هي فقط مسألة البحث في أين هي المادة وأين هي الروح، دون البحث في فعل ووظيفة كل من المادة والروح في الحياة. فعبود عبود مثلاً، وفي أكثر من مكان في كتاباته ومؤلفاته يقول بأن المادة في الفلسفة المدرحية هي في المزيج السلالي والروح هي في القومية، وأن الفلسفة المدرحية هي فلسفة الامة من حيث مادتها المزيج السلالي وروحها القومية، الى أن يقول: “هذه هي فلسفة سعادة بكل يسر وبساطة ووضوح ! (الفلسفة المادية الروحية عند سعادة- دار فكر. ليس موجود تاريخ النشر لكنه نشر في ثمانينات أو تسعينات القرن الماضي).
أما الرفيق الأديب يوسف المسمار فقد نشر منذ عدة أيام مقدمة لكتاب سيصدر له في 16 تشرين الثاني القادم تحت عنوان “الفلسفة المدرحية جوهر الرسالات الصالحة”، يقول فيها: “لا سماء بدون أرض ولا أرض بدون سماء، والتفاعل الموحد الارضي السماوي هو منتج الحياة وعامل الارتقاء وضامن البقاء…” وغير ذلك مما يوحي بالمعنى السماوي، أي الديني الماورائي للروح المقصودة بالمدرحية.
أحد الرفقاء طالبني بأن أذكر المراجع التي يجزم فيها سعادة بأن الروح التي يقصدها في فلسفته المدرحية هي القيم النفسية الانسانية الاجتماعية حصراً وليس الروح الدينية السماوية الغيبية. الحقيقة أن سعادة في كل تراثه وأعماله كان واضحاً جداً أن الانسان وقضاياه الاقتصادية الاجتماعية هو وحده ما يشكل موضوع عقيدته وفلسفته وصراعه كله. فها هو سعادة في مقالته “نظرة سعادة الى الانسان” يقول ما يلي: “إن نظرة سعادة الى الانسان هي فتح فلسفي جديد، إنها فهم جديد شامل لحقيقة الانسان ومعرفة الانسان والقيم الانسانية”…”الانسان- المجتمع، هذه هي فلسفة الانسان الجديدة” (أي نظرة سعادة الجديدة في موضوع الانسان)، وأيضاً: “ليست قيمة الحق ولا الحقيقة والخير والجمال مادية، فهي لا تقاس بالسنتيمترات ولا….الخ، إنها قيم إنسانية نفسية- إنها قيم مجتمعية“. أما في مقالته “الحق والحرية” (الاعمال الكاملة ج 7 ص 391) فإنه يكرر القول السابق ويضيف عليه: “الحق إنتصار على الباطل في معركة إنسانية وليس في معركة غيبية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها الانسان- المجتمع الانساني”.
لذلك فإنه يجب أن يكون محسوماً وواضحاً بان فلسفة سعادة موضوعها الانسان- المجتمع وقيمه المادية الروحية، وليس أي شيء آخر. “إن المبدأ الذي جاء به سعادة هو نظرية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية…وهو فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.” (من مقالة بين الجمود والارتقاء). إن فلسفة سعادة هي “فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية” (من رسالته الى القوميين سنة 1947) وليس التفاعل الموحِّد الارضي السماوي كما يريد الرفيق المسمار. وإذا كان للقيم الدينية تأثير في الانسان- المجتمع فأنه تأثير أكيد، لكن من حيث هي قيم مجتمعية إنسانية وليس من حيث هي قيم غيبية مجردة مستقلة، وسعادة يقول في ذلك: “مما لا شك فيه أن الدين هو ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشري”. إن القيم الدينية هي قيم روحية كان للانسان وثقافته وتصوره الدور الأكيد في صنعها أوبلورتها أوتأويلها لتناسبه وتتفق مع مستوى وعيه وثقافته، وهي قد فعلت بدورها في الانسان وكانت عاملاً من العوامل الروحية العديدة التي جعلت الانسان يكتب تاريخه، أي جعلته يفعل في الحياة والتاريخ. فالقيم الدينية هي إذاً واحدة من العوامل الروحية الانسانية وليست العامل الروحي الحصري الوحيد. إن الانسان يفعل في المجتمع ويصنع تاريخه ليس فقط بعامل أيمانه الديني بل بعامل حاجاته المادية ومطالبه النفسية معاً. سعادة يقول بأن حياة الانسان تجري ضمن مثلث “الجسم والنفس والمحيط”، والنفس هنا لا تأخذ معنى الدين بل هي “الظواهر النفسية كالوعي والإحساس والإرادة وما إليها، وهي هذه الظواهر التي لها كل الأهمية في حياة الانسان الاجتماعية- في فهم الانسان لمحيطه” (نشوء الامم- الفصل الرابع- تحت عنوان تباين إجتماع الانسان والحيوان).
النظرة الى الحياة والكون والفن.
إن بعض دارسي سعادة يستندون الى أنه ينظر الى الكون وليس فقط الى الحياة ويقولون أن نظرته الى الكون معناها أن الروح في نظرته وفلسفته لها معنى ما في الكون، أي ما هو وراء هذا العالم، أي ما ليس إنسانياً أو إجتماعياً، ويقولون: ولماذا كان لسعادة نظرة الى الكون إذاً طالما أن موضوع فلسفته هو الانسان- المجتمع في هذا العالم وليس ما وراء هذا العالم ؟!
البعض يلتبس عليهم الأمر ويقولون: وما هو الكون وما دخل لنا ولحزبنا وقضيتنا بالكون ولماذا يتدخل سعادة في قضايا الكون طالما أن قضيته هي قضية الانسان- المجتمع ، أوَلم يقل سعادة “بأن موضوع فلسفته هو الانسان والقيم الانسانية لا منشأ الكون ؟؟؟ (مقالة نظرة سعادة الى الانسان)
بلى سعادة قال ذلك ، وقال أكثر من ذلك أيضا ، قال أن السوفستيين الإغريق أي ما يعرف بالسفسطائيين أنهم رغم تهدم أسلوبهم وفساد نظريتهم قد أحدثوا تطوراً فلسفياً عظيماً بنقلهم موضوع الفلسفة من الكون الى الانسان . وقال انه سواء أكان جعل السوفستيين الانسان موضوع تفكيرهم بوعي صحيح كلي لخطورة التطور الذي أحدثوه أم بلا وعي، فان قيمة موضوعهم هي أنه يجب على الانسان الذي يحاول أن يوضح أحجية ما هو الكون أن يوضح سؤالا أسبق هو ما هو الانسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ما هو الكون .
بعد كل ذلك وبعد تنبيه سعادة المتكرر بأن قضيتنا هي الحياة وشؤون الحياة وليس منشأ الكون والماوراء والغيبيات وما وراء الحياة التي هي أمور لكل منا حريته الشخصية الداخلية للايمان بها كما يشاء ، بعد كل ذلك نسأل لماذا كان لسعادة اذن، ولنا معه ومن بعده، نظرة الى الكون هي جزء من نظرة الى الحياة والكون والفن ؟؟
الجواب هو أن نظرة سعادة الى الكون لا تعني أبداً نظرة الى منشأ الكون أو ما هو الكون الذي كان موضوع الفلسفة الاغريقية في مرتبتها الاولى مع طاليس أي قبل سقراط . الكون الذي ينظر إليه سعاده هو هذا الذي يتضمن الوجود ويشمل الحياة في أساسها ومصالحها ومصيرها وكل ما يتعلق بالحياة وإرتقاء الحياة. وهذا يختلف جذرياً عن موضوع الفلسفة اللإغريقية في مرتبتها الاولى الذي هو موضوع كيف إنوجد الكون ومن أوجد الكون ولماذا أوجد موجد الكون الكون وغيرها من الاسئلة الماورائية التي لا تتعلق بالحياة والانسان.
الجواب هو أن الحياة هي الجزء الذي يعنينا من هذا الكون وهي غير منفصلة او مستقلة عنه . هكذا يكون موضوع فلسفة سعادة هو الانسان – المجتمع في هذه الحياة وهذا الوجود وهذا الكون، وليس منشأ الكون، وبالتالي فالروح في المدرحية هي ما يتعلق بالقيم المجتمعية الانسانية في هذه الحياة وهذا الوجود وليس ما يتعلق بالسماء ومنشأ الكون.
الفرق بين العلم والفلسفة
لا يجب أن يغيب عن ذهننا ونحن نتوغل في هذه التفاصيل بأن غرضنا الرئيس هو بيان أن المدرحية هي علم وفلسفة معاً، وأن تعبير “الاساس المادي الروحي للحياة الانسانية” يعني الأساس العلمي والفلسفي معاً، وقد رأينا آنفاً كيف أن سعادة يستعمل تعبير “الاساس العلمي والفلسفي” مما يعني أن نظرة سعادة المدرحية الى الحياة هي نظرة علمية وفلسفية معاً.
ومن أجل ذلك يجب أن نوضح الفرق الرفيع والدقيق بين العلم والفلسفة، أو بين ما هو علم وما هو فلسفة في الحياة.
العلوم تتناول الحياة كما هي بواقعها وظروفها وعواملها، تتناول كل ما هو أمام الانسان وفي محيطه لدرسه ومعرفته معرفة واضحة بواسطة الحواس أو بواسطة العقل والمنطق. وبما أن الحياة ليست مادية فقط، وبما أن القوى والعوامل الروحية – النفسية هي جزء من الحياة “فاعلة في المجتمع” حسب تعبير سعادة، فعلى العلم درسها ومعرفتها ومعرفة دورها وتأثيرها ونتائجهما، وكل ذلك من أجل الاستفادة من هذه المعرفة لتحسين الحياة وأرتقائها.
وإذا كانت العلوم هي الكشف عن حقائق الحياة بالمعرفة، فإن الفلسفة هي البحث عن المبادئ المشترَكة في العلوم، هي النظرة الشاملة للعلوم لإستخراج حقيقة واحدة شاملة منها، هي فهم عام وتأويل عام للحياة إذا ما كان صائباً وتم العمل بموجبه صارت الحياة أجمل وأحسن وأرقى.
هكذا لا تكون الفلسفة مستقلة عن العلم بل متوافقة معه. نقول ذلك لان البعض يظن ان الفلسفة هي شأن لا علاقة له بالعلم، ويظن تبعاً لذلك بأن المدرحية هي فلسفة فقط ولا علاقة لها بالعلم. الفلسفة لا يجب ولا يمكن تحييدها عن شؤون العلم وحقائق العلم وإلّا نكون قد رجعنا بالفلسفة ومعناها الى العهود القديمة، الى عهد ما قبل العلم حيث كانت تعني الحكمة أو الراي الحكيم غير المبني على حقائق ومعارف، غير مؤسس على العلم، وحيث كانت الفلسفة هي البحث في الماورائيات والغيبيات قبل أن يصبح الوجود موضوعاً للفلسفة وقبل أن يصبح الانسان وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية من أهم مواضيع الفلسفة.
أريد هنا أن أوافق الأمين أنيس فاخوري حيث يقول: “بينما العلوم على إختلافها تعني بالجزئيات وتفاصيل الامور، كل حسبما يخصه ويدخل في نطاق بحثه، نرى الفلسفة لا تعني بالجزئيات بقدر ما تعني بالكليات أو بالمبادئ والاصول الاساسية للأمور والاشياء، بالنظام الأساسي الذي يسيّر الأمور والأشياء. إن الفلسفة تعني بخلاصات جميع العلوم لتصوغها في قالب واحد وتلقي نظرة واحدة شاملة محيطة وتستخلص حقيقة واحدة كبيرة: (النظام الجديد- العدد الخامس ص 58).
كم يتفق هذا الكلام مع نصيحة سعادة لفايز صايغ قبل تمرده الذي أدى الى طرده: “إذا كنت تريد التعمق في الفلسفة والوصول الى فهم حقيقي للوجود يمكنك من تكوين راي فلسفي صحيح، عليك بدرس علوم اساسية كعلم النفس الاجتماعي وعلم الحياة وعلم الانسان وغيرها من علوم الاجتماع”. (أورده أنيس فاخوري- نفس المصدر).
في الحلقة القادمة: العلاقة بين فلسفة العلوم والعلوم والفن وفلسفة الحياة.