نحو خطاب حزبيٍّ جديد ـأفكار أوَّليّةـ د عادل بشارة
“نحن في حاجة إلى خطاب حزبيٍّ جديد.” لا أستطيع أن أتذكَّر كم مرةً سمعت هذا القول المأثور في السنوات القليلة الماضية. ومع ذلك، لا توجد دراسة معيَّنة، ولا حتى مقالة بحثية واحدة، على حدِّ علمي، تشرحان لنا لماذا نحتاج إلى خطاب جديد، وما هي الصفة والاتجاه اللذان ينبغي له أن يتَّخذهما
يحدِّد الخطاب الحزبيُّ كيفية تعامل “الحزب” مع الجمهور العام، من خلال اللغة والشعارات والمصطلحات والسياسات والخُطَب والقرارات التي يوظِّفها لجعل نفسه مسموعًا، أو لاستقطاب الدعم. إنها عملية مستمرَّة تنطوي، بالإضافة إلى تصنيع النصوص، على تقديم وتعزيز أعلى معايير السلوك والتصرف الشخصيَّين.
لا يمكن إنتاج خطاب جديد بين ليلة وضحاها؛ فثمَّة قَدْر كبير من الوقت والجهد، والتخطيط الدقيق، والتقويم الشامل، والمراجعة، يدخل في صياغة هذا الخطاب. ومع ذلك، فإن تحديثه بانتظام أمرٌ ضروريٌّ لأيِّ حزب سياسيّ إذا كان يريد أن يستمرَّ ويتقدّم في الحياة.
عادة ما تكون المعايير التالية، من الناحية النظرية، مطلوبةً للوصول إلى خطاب عالي الجودة. ونحن نقدِّمها هنا ليس كعرض نهائيّ، بل كعناصر خاضعة لمزيد من المناقشة والتطوير:
1- الاستقلالية: يجب ألاّ يكون خطاب الحزب مستقلاًّ فحسب، بل الأهم من ذلك أيضاً، أنه يجب ينظر اليه ويفهم على انه مستقلا. فخطاب حزبنا، اليوم، غيرُ قائم على مبدأ الاستقلالية، بل مندمج ومذوَّب في خطابات أحزاب أخرى يكاد المرء لا يميِّزه منها. إنه خطاب يتَّسم بالتبعية شبه المطلقة، ونادراً ما تشبه لغتُه ورموزه وصُوَره وتعبيراتُه اللغةَ والرموز والصُّوَر والتعبيرات التي كان الخطاب الحزبيُّ قائماً عليها خلال حقبة سعادة وما بعدها الى حد ما، والتي كان الحزب يفتخر بها. لذا، فإن الخطوة الأولى في بناء خطاب حزبيٍّ جديد تكمن في عكس هذا الوضع، عن طريق تطهيره من جميع العناصر والمكوِّنات الدخيلة عليه، وإعادةِ صياغته وتقديمه باعتباره خطاباً مستقلاًّ يتمتع بفردية عالية ورؤية خاصة به.
2 – التوازن والإنصاف: على الخطاب السياسيِّ أن يتمتَّع بأعلى درجات التوازن والإنصاف كي يكون له تأثيرٌ حقيقيٌّ، وحتى يؤدّي الى ولادة اهتمام حقيقيّ. وهذا يعني أن يكون قادراً على استيعاب الأمور ومعالجتها من دون أيِّ تحيُّز أو إجحاف ضدَّ أيّ مجموعة في المجتمع، باستثناء اعداء المجتمع (الاقطاعات الدينية والمذهبية والرأسمالية والرجعيين والمتحالفين مع الإرادات الأجنبية). وينبغي له تحقيقُ التوازن والإنصاف بطريقة تمكِّن الحزبَ من المحافظة على قِيَمه الخاصة في العلاقة بالآخرين، وعلى ان يتَّسم، في الوقت نفسه، بقَدْر عالٍ من الديناميكية والحيوية والتفاعلية العالية. كما أنَّ من الضروريِّ أن يشعر عامَّة الناس بأنَّه يؤدّي دوره بطريقة عادلة ومنصفة، وأنه لا يخدعهم، أو يستخدم معاييرَ مزدوجة في التعاطي مع الأحداث والمستجدّات (وهنا أستذكر، توضيحاً على ذلك، حادثةً سابقة عندما نعتَ الحزبُ الراحلَ ياسر عرفات بـ “الخائن” لأنه خرق المقاطعة ضدَّ مصر (على اثر توقيع السادات لكامب دايفد)، ثمَّ أشاد بالرئيس حافظ الأسد، واصفاً إيّاه بأنه “بطل” عندما فعل الشيء نفسه ( ). فالخداع واتخاذ المواقف المزدوجة أمران مُضرّان جدّاً بصورة الحزب في نظر الجمهور، وأمام الرأي العام. وهُما سلوكان ممقوتان وغيرُ مقبولين أخلاقيّاً مهما تكن المبرِّرات.
3 – الشجاعة: لا يكون الخطاب خطابًا، بل يصير اجتراراً مملاًّ إذا كان لا يملك الحدَّ الأدنى من الجرأة والشعور بالمسؤوليّة. ونعني بكلامنا هذا الاستعدادَ للتعبير عن الأشياء كما هي، بكل صراحة وجرأة، ومن دون أيِّ تحيُّز أو محاباة أو خوف. فالتواضع والقدرة على الاعتراف بالخطأ هما من الصفات المهمَّة للشجاعة، كما أن الاعتذار عن الأخطاء يُعتبَر من شِيَم الأخلاق الكبيرة والنفوس الأبيّة. وتتطلَّب الشجاعةُ، وتحديداً في الخطاب الحزبي، إقرانَ الأقوال بالأفعال، واتخاذَ الخيارات الصعبة، والصدقَ مع الذات ومع الآخرين. فـ”ليست الشجاعة أن نقول ما نعتقد، وإنّما أن نعتقد كلَّ ما نقول” من الناحية العقائدية البحتة. فالشجاعة هي الثبات عند كل خطر، وضبطُ النفس في أثناء مواجهة كلِّ محنة. إنها شجاعة العقل الذي يفهم، ويحلِّل، ويقوِّم، ويُصدر النتائج، ويقُوم بردود فعل منطقية وأخلاقية. إنها شجاعة اعتماد الجَسارة والإقدام والتحلّي بقوة الشكيمة، والتمسُّك برأيك وموقفك مهما تكن المغريات والضغوطات. وعندما يلجأ أيُّ حزب إلى الأعذار والتبريرات، أو يخضع للمغريات والتنازلات، أو ينساق وراء تيارات تُبعده عن غايته (كما هي حال حزبنا اليومَ، ومنذ سنوات عدّة)، يفقد خطابُه عنصرَ الشجاعة، ويخسر بالتالي دعمَ الجمهور العام واحترامَه.
4 – الولاء والثقة بالنفس: من الضروريِّ أن يوحي الخطاب الحزبي بجوٍّ من الإيمان الراسخ والثقة بالنفس، ليس فقط بإظهار التزام أصيل وثابت، وإنما أيضاً بإقرانِ هذا الالتزام ببناء العلاقات والحفاظ عليها، على أساس التواصل المفتوح والفعّال مع عامّة الناس. فالخجل، والمراوغة، والتنصُّل، والتلاعب، وغيرها، هي أمور غير مقبولة؛ وكذلك الرغبةُ في المهادنة والتنازل عن المبادئ والحقائق في مقابل مكاسبَ سياسية أو شخصية ضيِّقة. إن تغييب كلمتَي “سورية” و”السوريون” عن خطاب حزبنا، أو عدمَ التشديد عليهما، أو استبدالَهما بعبارات أخرى، ك “المشرقية” و”العربية”، هو مثالٌ واضح على ذلك. إنه التخلّي، في حدِّ ذاته، عن هويَّة تأسُّس الحزب، في المقام الأول، من أجل توضيح معالمها وإثباتها. فالخطاب الحزبيُّ يفقد تلقائيّاً السببَ الجوهريَّ في وجوده في اللحظة التي يشكِّك فيها في أيّ جانب من جوانب المعتقدات والثوابت المركزية التي قام عليها.
5 – التمايُز والملاءمة: الخطاب الجيد هو الذي يتناول القضايا بأسلوب يستطيع الجمهور أن يتفاعل معه ويميِّزه من غيره. وكي يحدث ذلك، تجب صياغة خطاب الحزب بهدف الوصول إلى أوسع وأكبر شريحة من الشعب، وأن يتميَّز بمفردات ومنطق تروق كلَّ فئات المجتمع، بغضِّ النظر عن الاختلافات السياسية القائمة بينها. وبالتالي، يجب ألا تنظر إليه أيُّ مجموعة (بالمفهوم المجتمعي وليس السياسي للكلمة) على أنه مُعادٍ لها. ومن المهم أيضاً أن يرى الجمهور، ويشعر بأن هذا الخطابَ السياسيَّ يشكل بديلاً حقيقيّاً للخطابات الأخرى، وليس امتداداً لأيِّ خطاب آخر. أمّا فيما يتعلَّق بالملاءمة، فيجب ألاّ يكون الخطاب تقليديّاً أو منمَّقاً بكلام فارغ وعبارات معسولة لا تزيد الحالةَ إلا تعقيداً، بل أن يكون واقعيّاً ومحفِّزاً على الحلول العملية والأفكار التي تُنعش الآمال وتروي ظمأ النفوس.
6 – العقلانية: تعني العقلانيةُ “تطابقَ معتقدات المرء مع الأسباب التي تدفعه إلى الاعتقاد، وتطابقَ الأفعال التي يقوم بها مع أسباب القيام بالعمل”. ويجب أن يستند الخطاب إلى المنطق والحقائق والمعلومات والمعرفة والحكمة والوعي والتفكير النقديِّ والصياغة العقلانية، من أجل تجسيد هذا المبدأ المهم. فهذه الأمور، كلُّها، تشكِّل الدعامة الأساسية للخطاب الجيد، في حين أنَّ الاندفاع، والنفعية، والعاطفة، والتقليد، وقِصَر النظر (التي تطغى على الخطاب الحاليَّ للحزب) تشكل، مجتمعةً، سِماتِ الخطاب السيِّئ. باختصار، تتطلَّب العقلانية، على الأقلِّ، إزالةَ التنافر والسلوك المتهوِّر.
يقف حزبنا، اليوم، على منحدر سحيق متوجِّهاً صوب أزمة تهدِّد كيانه. فخطابه قديمٌ، وغيرُ متَّصل بالواقع، وغامضٌ، ومتحجِّرٌ في الزمان والمكان. ولا يتماشى، في صيغته الحالية، مع نظرة الحزب، وهو مثقَلٌ بالمصالح الشخصية، ومستندٌ إلى سياسات سيِّئة، وغيرُ جذّاب إلاّ ضمن أوساط محدودة جدّاً. لقد تراجع مستوى الخطاب الحزبي إلى أدنى مستوياته، وأصبحت الوجوهُ التي تروِّج له أشبهَ بوجوه بُسَطاء العقول والسماسرة وأرباب السياسة التقليدية.
إنَّ التحدّي القادم، والتعاملَ الواعي والمسؤول معه، يكمنان في إعادة الخطاب الحزبي إلى منطلقاته العقائدية بما يتماشى مع غاية الحزب. ومن أجل القيام بذلك، نحن في حاجة إلى حَقن حياة جديدة فيه، وربما إلى تجديد كامل في الرؤية والأفكار والأشكال والصياغة. وهذا يعني، عمليّاً، التالي:
- التركيز في أن “الحزب” هو، قبل كل شيء، قضيةٌ وفلسفة وثقافة ومشروع حياة، وليس برنامجاً سياسيّاً مرحليّاً وتكتيكيّاً لتحقيق أغراض عابرة.
- صياغة فهم جديد للعلاقة بين الحزب والمجتمع من منظور تَحْكمه المصلحةُ الحزبية والقومية العامة فقط، لا المصلحةُ الفردية والغايات الخصوصية.
- دفع غاية الحزب إلى الواجهة، وجعلها البوصلة الواحدة والوحيدة في صَوغ سياساته.
- الالتزام بقضايا الناس والدفاع عن حقوقهم في إطار لا تحدِّده التحالفات، ولا تعرقله المصالح الآنية.
- ضبط المفاهيم ومعايرتها بشكل دقيق لتكون أكثر توافقا مع عقيدة الحزب.
- إيجاد آليات جديدة ومرنة للعمل القومي، والتفاعل مع كل شرائح المجتمع السوري، وبصورة خاصة مع ما يسمى ب “الاقليات” الاثنية والعرقية والدينية، والعمل على فهم وتفهم اوضاعها ومتطلباتها.
- الإقلاع عن المفاهيم التقليدية النمطية.
- العودة إلى أدبيّات الحزب العقائدية في استخراج التعابير وصياغات السياسات.
إن تجديد الخطاب الحزبي وتطويرَه مسألةٌ تفرضها طبيعة الأشياء، ولاسيَّما أن الحزب معنيٌّ بالتطوير والاستجابة للتحديات، بكل أشكالها، في ظلِّ ظروف غير مسبوقة تمرُّ فيها الأمَّة. ولكنَّ تطوير الخطاب الحزبيِّ، وهو حاجة وضرورة، لا بدَّ من أن يواكبه تطويرٌ في السلوك والممارسة، بل حتى تغييرهما. وهذا تحدٍّ حقيقيٌّ للحزب، أعضاء وقيادةً، وجَسٌّ لقدرتهم على تمثُّل أدبياته وخطابه والدفع بالنماذج الجيدة المستوعبة لغايته.
ولكن، قبل أن نبدأ التفكير في خطاب جديد للحزب، علينا إجراء خطوتين أساسيتين هما:
(١) الاعتراف بأن الخطاب الحزبي القائم يفتقد مقوِّمات التأثير، ويُبحر في التناقضات وضعف الأداء واللَّغط والإطناب والتبشير بواقع لا يوجد إلاّ في مخيِّلة بعض “النُّخب الحزبية”، بغرض الكسب السياسي، الأمر الذي يجعل الهدف ضائعاً بين التطلُّع والإحباط.
(٢) إعادة ترتيب البيت الحزبيِّ وتطهيرُه من الذين أوصلوا خطابه إلى هذا المستوى المُخجل، وإلى هذه الدرجة من الذلِّ والهوان.
هذه، باختصار، هي نقطةُ البداية التي لا مفرَّ منها.