مي زيادة وضمير الأمة- د فاتن المر
قراءة في رواية “ميّ ليالي إيزيس كوبيا” لواسيني الأعرج[1]
ما الذي يؤلمك في قصة مي زيادة إلى هذا الحد؟ لماذا، حين تقرأ عنها، يلازمك ذلك الوجع القديم الذي يوقظ فيك شيئاً مثل المرض المزمن؟ لماذا تشعر أنها تحاكي عمقاً ما من الصعب أن تدركه؟ ألأنها قصة ظلم يهتز لها شعور أي إنسان على هذا الكوكب؟ أم لأنها تذكّرك بأمر آخر؟ ألأنها تشبهك وتشبه هذه الأمة المنهكة؟
أذكر أنني شعرت بالألم نفسه حين سمعت القصة التي أخبرتني إياها الرفيقة سوريا كرم المهتار التي قامت، مع عدد من الرفيقات، بعد أن قرأن ما كتبه الزعيم عن مي زيادة في جريدة النهضة، بوضع خطة للقيام بمظاهرة للمطالبة بالإفراج عن الأديبة. فزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي كان أعلم بالظلم الذي يمكن أن تلحقه المؤسسات الخاضعة لمصالح المتنفذين، وهو كان أعلم بالقيمة العظيمة التي يحملها كل مبدع والتي تشكل وجدان الأمة. أمسك بي الألم أيضاً حين قرأت ما كتبه سعاده حول التأثر الذي تملك منه عند إطّلاعه على الموضوع من الممرضة التي كانت تعنى بها بوساطة أحد الأصدقاء، والجهود التي
بذلها لإنقاذها مما أسماه “مخالب الغول”، على الرغم من نصائح البعض باجتناب مسألة تتداخل فيها مصالح شخصيات نافذة. لكنه أبى إلا أن ينصر الأديبة المظلومة، فوقف معها على الرغم من الاضطهاد الذي كان يتعرض له الحزب السوري القومي الاجتماعي في ذلك الوقت. وعندما علم، في مغتربه القسري، بخبر وفاتها، كتب عنها مقالاً جاء فيه: ” كانت «مي» بركة من بركات العناية لأمة صريعة، ولذلك كانت بركة ضائعة. كانت كرمة نابتة في أرض شوك كثير، فالتف عليها الشوك وخنقها خنقاً.”[2] لكن الظلم الذي لحق بالأديبة لم يوفر سعاده، واليوم، إذ نقرأ قصتها، لا نجد أي أثر للمساعي التي بذلها، أو المقالات التي كتبها، أو فرقة الحرس التي أرسلها لتحرس منزلها وتردع المعتدين…
أخرج الكاتب الجزائري واسيني الأعرج قصة مي زيادة الحزينة من أقبية النسيان وأودعها صفحات رواية تبدأ بقصة بحث الراوي، ياسين الأبيض، عن المخطوطة الضائعة التي سجلت فيها الأديبة معاناتها، في أثناء احتجازها في “العصفورية”، ويروي كيف ارتطم بحاجز المصالح الذي يطال أمكنة الذاكرة كما يطال الأشخاص، فالبناء الأثري للمستشفى قد وقع في قبضة شركة سوليدار التي منعت الراوي وصديقته من دخول المبنى المهجور وتصوير فيلم وثائقي عن الكاتبة.
“لن تحزن البشرية عليك ولن يتغير العالم بعد موتك. “هذا ما كانت تقوله لها الممرضة-السجانة في الرواية، وهذا ما يحزن القارئ: لم يحزن المجتمع النسّاء طويلاً، ولم ينقل مأساتها للأجيال التي تتالت ولم تعرف عن مي زيادة إلا بعض النصوص في الكتب المدرسية، تقرأها بملل لأنها لم توضع في إطار يمنحها الإضاءة التي تستحق. لم يطلعنا أساتذتنا على قصتها الحقيقية. ما الذي كانوا يخشونه؟ أم أنهم لم يعلموا؟ الحالتان مصيبة تربوية وطنية… واحدة من عشرات. بعد كل هذه السنين، يصحح واسيني الأعرج الخطأ… عسى أن يقرأوا وأن تسترجع الذاكرة الجمعية ما تناثر من إرثها.
تدور أحداث الرواية في حلقة مفرغة، في “العصفورية”، حيث سجنت مي زيادة، بناء على توصية ابن عمها الذي طمع في السيطرة على ما كانت تملكه من مال وعقارات ورثتها عن والدها. مي، التي سيطر عليها الاكتئاب إثر وفاة والدتها، بعد أن فقدت والدها وحبيبها جبران خليل جبران، كانت قد لجأت إلى ابن عمها، علّه يعينها على تخطي تلك المرحلة الصعبة، فما كان منه إلا أن حاك مؤامرة واتهمها بالجنون، وهي، بين الاكتئاب، وذكريات عاطفة قديمة كانت تكنها له، بالإضافة إلى المهدئات، رضخت، وأعطته توكيلاً عاماً على أملاكها، فلم يبق أمامه إلا شراء بعض الذمم وإقناع البعض الآخر بمرض مي النفسي. والكاتبة الكئيبة قدمت مسوغاً لسجانيها باللجوء إلى الإضراب عن الطعام الذي كان السلاح الوحيد المتبقي لديها… كما بقيت لها الكتابة، وفي هذا تقول: ” أكتب لأنني لا أعرف مهنة أخرى أتقنها وأكبر بها وفيها.”
على دفتر صغير منحته لها الممرضة الكريمة “بلوهارت” راحت تخط حكاية الألم في واقع أشبه ما يكون بالكابوس، وتستعيد الذكريات السعيدة من ماضيها، علها تسترجع هويتها الضائعة، تقنع نفسها، قبل الآخرين، أنها هي مي زيادة، الأديبة التي تحلق حولها أرباب الأدب والفكر وأحبوها.
يرسم واسيني الأعرج خطاً موازياً لمصير مي هو خط مصير كامي كلوديلCamille Claudel ، النحاتة التي عملت مع رودان وعشقته، وانتهى بها الأمر في مصحة المجانين. تقرأ مي كتاب مراسلات كامي كلوديل وتبدأ بمراسلتها فتتحد روحاهما في صداقة تتكئ على الألم والشكوى من ظلم رجل يرفض أن تتخطاه المرأة في أي مضمار ومجتمع ذكوري يسانده.
“لا أحد في هذا المكان المغلق، ولا حتى الفريق الطبيّ، يدرك أنك، عندما تواجه الظلم وحيداً، تتمنى فقط أن تصرخ مثل ذئب البراري والأدغال المعزولة، حتى تسمعك بقية الحيوانات الهائمة في الطبيعة. المحزن أنك، في العصفورية، عندما يتسع صراخك، يرتد صوتك نحوك، ويتراكض الممرضون والطبيب أحياناً نحو سريرك، لا لمساعدتك، بل للجمك، لأنك أصبحت حيواناً مفترساً يمكن أن يضر بالنظام والناس.”
في روايته، ينجح واسيني الأعرج في تحويل صرخة مي زيادة من الحالة الفردية إلى نقد مجتمع يتعلق بالسائد والسطحي، ولا يأبه باستكناه عمق الظواهر. فحين تُتَّهم مي بالجنون، يصدق الجميع أنها مجنونة ويتناقلون أخبار مرضها في جلساتهم وعلى صفحات جرائدهم، وحين يأتي من يُظهر حقيقة الأسباب التي أدت إلى احتجازها، يتسابقون لإنصافها والمناداة بحقوقها… وما أشبه الأمس باليوم. وما أقبح الرأي العام الذي قال عنه الأديب سعيد تقي الدين إنه كالبغل ينام طويلاً، ثم ينتفض لبرهة، يعود بعدها ليغط في سبات عميق.
قد يكون واسيني الأعرج قد نجح في جذب اهتمام القارئ أو أخفق لأسباب عدة منها أسلوبه الذي يرهق بالتكرار والدوران طويلاً في ما يشبه الحلقة المفرغة، قد يأخذ عليه القارئ تلاعبه بحياة مي وتأويلاً شخصية لبعض نواحي شخصيتها، ولكنها تبقى في النهاية رواية، وليست سيرة، ولا يحاكم كاتبها بسبب البعد عن الحقيقة التاريخية… ويبقى على من يريد أن يعرف مي أكثر أن يعمد إلى قراءة سيرتها، مثل تلك التي كتبها الأمين أحمد أصفهاني بعد دراسة معمقة.
[1] الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، 2018.
[2] الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 34، 15/12/1941، من موقع http://antoun-saadeh.com/works/book/book4/1003#