1

مقال سياسي بامتياز – مي هديب


نادرا ما تقرأ مقالا تتمنى لو أنك كاتبه. والنادر أكثر أن يتخلى رئيس تحرير عن زاويته الافتتاحية لكاتب آخر. ولكن هذا المقال للزميلة مي هديب هزني من الأعماق. قبض على ياقتي وشدها يمنة ويسرة قائلا، “هذه كلمات يجب ان تُسمع. هذه كلمات يجب أن تَفعل.” ذلك أن بعض ما يقال – حتى إذا افترضنا حسن النية – يقع في خانة الغباء. اقرأ مي هديب، بغضبها، بحبّها، بعقلها. وإذا شعرت بدوار بعد قراءتك، لا بأس. إنه دم جديد يغلي في عروقك ويصعد إلى شرايين الدماغ فيحيها.

شكرا مي هديب، يشرفني ان تحتل كلماتك افتتاحية الفينيق. رئيس التحرير.


ترى ما هي الكلمات التي قد تستطيع أن تصف قهر ابنة عجزت عن التمسك بالحياة؟ ما هي الكلمات التي قد تصف قهر أم فارقت ابنتها الحياة، بل ومُنعت من وداعها الأخير! كيف يمكن أن ترصف الكلمات بجانب بعضها لتعبر عن غضب يشتعل داخلك تجاه هذا المشهد؟

سيداتي وسادتي هذا مقال سياسي بامتياز..

المسألة الفلسطينية مسألة لا لبس فيها إلا على الخائن. سوى ذلك هي مسألة حياة أو موت، والحياة والموت لا تقبل القسمة فيهما على كثير، فإما حياة وتمضي، وإما موت وغياب. قسمة على واحد، والواحد هو نحن ولا أحد سوانا. وللحقيقة مهما حاولت أن تلج إلى عالم الموت كي تصف الألم الذي يحيق بصاحبه، فأنت لا تعرفه، فلا زلت حياً، ومهما حاولت أن تصف ألم الفاقد فأنت تعجز عن أن تصف تلك الغصة التي تعلق على جانبي حلقك كي تكوي قدرتك على التنفس الطبيعي، وتعجز عن أن تصف ذلك الثقب الذي ينتصف صدرك، وتعجز عن الامساك بكلمة تناسب الخواء الكامن في الفقد.

سيداتي وسادتي، نعم لا زال المقال سياسيا بامتياز..

فلسطين التي فقدناها وفي كل يوم نفقد أكثر فيها، نفقد أحباء ورفاقا وأصدقاء، نفقد أخوة وعوائل، نفقد ذكريات ودُور وحوائط، نفقد فيها يومياً ما يُحدّث عن نحن، ونقف على أهبة استعادة ما فقدناه، ونفقد خارجها كل ما يتمم الواحد فينا فنبقى أضلعا ناقصة يعوزها استكمال المُعامل الصحيح للقسمة (واحد).

نعم لا زال المقال سياسيا بامتياز..

فلسطين التي استعادت نفسها في اشتباك أيام تعود للفقد مرة أخرى، فقدٌ يصنعه من يطالبون برحيل السلطة. فجأة يصبح الأمر من سيجلس مكان الآخر لاستكمال مهام دنس التاريخ. “أوسلو”، دنس جُلب بواسطة الخيانة، وأرسى قواعد الفقد الأكثر بشاعة في تاريخ أمتنا. أن تصبح سليل أوسلو يعني أن تقف في الشارع وتنسى العدو، ويصبح عداؤك هو الكرسي، وفقدُ فلسطين ليس مهماً، فالمهم كيف تحقق هدف الكرسي وتصيح بالحرية الوهمية، وتستغل الشهداء، وتستغل الأسرى، وتستغل التاريخ، وتستغل المقدس، وتصيح بكل قباحة: أريد حرية.

لا زال المقال سياسيا بامتياز..

من باع فلسطين سوى الثوار الكذبة!!

وأصبحنا صوراً في معارض النصب العالمية!  هذه دولة إسرائيل كما يقولون دولة فصل عنصري، دولة تميز بين الأعراق، وعليهم أن يتخلوا عن هذه العنصرية، دولة محتلة. أيدرك قائل هذه الكلمات أنه يمنح طواعية فلسطين كل فلسطين لمشروع وهمي؟ أم أنه بلغ من الدياثة التاريخية ما لم يبلغه غيره. دولة احتلال يا ابن الكلب؟؟ وترفع شعارات لترحل السلطة؟؟

المقال سياسي بامتياز.

أن تفقد يعني أن تبحث عن مواساة في فقدك، لا أن تتيه في صحراء التاريخ تبحث عن مرسى جديد. قد يلتبس الأمر عليك في أن تستطيع البوح بألمك، وقد يخضّك الأمر ككل، وقد تكون أحد المفقودين، لكنك لا تبحث عن قيمة تساوي الفقيد. أوسلو هي تلك القيمة غير المعرّفة، والتي أنتجت تشوهات لا نهاية لها على خط تعداد الخطايا. أقبح ما فيها هؤلاء الذين اعتقدوا بأن الأمر مطالبة سلمية بالحرية. و”سلمية” هذه هي سالومي العاهرة التي تزني لصالح قومها، وترقص يومياً وعلى رأسها رأس طليبها المعمدان. ويغنج السالوميون بالمطالبة بالحرية تحت الاحتلال!! وأن ترحل السلطة ليأتوا بسلطة أكثر تفهما للحرية تحت الاحتلال، واعتبار الاحتلال دولة فصل عنصري. سالوميون يتأوهون بنشوة مازوخية غير مسبوقة في التاريخ، ويبغونها أمريكية عوجاً، ويصدرون الأرقام اليومية للشرعية الدولية حول انتهاك حرياتهم من دولة فصل عنصري وسلطة إدارة شؤون العرب المقيمين على أراضي هذه الدولة، سالوميون يسلمون فلسطين بالباع والذراع، ويهتفون بالسلمية!

السياسي بامتياز: فلسطين، ” سورية الجنوبية”؛ قام على أرضها مشروع اجتثاثي اسمه المشروع الصهيوني، وكي ينتهي المشروع الصهيوني يعامل بمثل ما بدأ، يجتث بالمثل، الدم بالدم، والرب بالرب، لا حرية داخل الاجتثاث، ولا سلطة لإدارة شؤون السكان المحليين، ولا شعارات للإبقاء على قليل منه، وإن كان الأقصى مشكلة عاطفية، ليكن هدم الأقصى فعلاً ذاتياً لا يبقي على لبس ولا يذر، ولا يعطي مساحة تسابق بين “كَناين” أمريكا للتصايح على حقوق جزئية مشوهة.

فلسطين “سورية الجنوبية”؛ لا تقبل القسمة على اثنان، بل على واحد، وكي يكون الواحد، يصبح لزاماً أن يكون حسماً وليس تنقاية عدس.

سيداتي..سادتي..

ملعون بلسم الاحتكاك السلمي في مقالاتكم وصرخاتكم وصوركم وغنجكم ولعبكم وبيعكم وكونكم، فالأمر سياسي بامتياز.