1

معركة جرود عرسال في إطارها الأشمل

سارت معركة جرود عرسال كما هو مخطط لها: إنهاء الجيب الذي كان يحتله مسلحو “النصرة” و”داعش” وأحد فصائل “الجيش السوري الحر” في المنطقة الجردية التي تربط بين الأراضي اللبنانية والشامية. ونجحت وحدات الجيش الشامي ومقاتلو “حزب الله” في إلحاق هزيمة ساحقة بالمسلحين ابتداء من جرود فليطة الشامية وصولاً إلى جرود عرسال اللبنانية. وتتركز الأنظار الآن على وحدات الجيش اللبناني لإزالة وجود “داعش” في جرود رأس بعلبك والقاع الموجودة كلها داخل الأراضي اللبنانية

هذا أنجاز يُسجل للجيشين الشامي واللبناني ولـ”حزب الله” من حيث إستئصال الخطر الإرهابي المتمثل بوجود هؤلاء المسلحين الذين أثبتوا في الماضي قدرتهم على استهداف مواقع الجيش اللبناني في مدينة عرسال نفسها، وعلى إرسال السيارات الملغومة والإرهابيين الانتحاريين إلى مختلف المناطق اللبنانية. ومع أن هذا الجيب الإرهابي بات معزولاً خلال الأشهر الماضية بعد عودة سيادة الدولة الشامية إلى مناطق الزبداني ووادي بردى، فإن المسلحين في الجرود ظلوا بمثابة قنبلة موقوتة تهدد السلم الأهلي ليس في البقاع وحده وإنما في الكيان اللبناني كله.

لكن الاعتقاد بأن هدف معارك تحرير الجرود الشامية واللبنانية هو فقط لإنهاء الخطر الإرهابي الذي يشكله مئات المسلحين قد يُخفي عن إدراكنا الأبعاد السياسية الأوسع التي يمكن أن ندرج هذه المعارك في سياقها. ذلك أن تحرير الجرود، بالمعنى العسكري، كان من باب تحصيل الحاصل لجيب منعزل محاصر خسر شريان الحياة الحيوي من الداخل السوري، وانفك عنه بعض التأييد المحلي اللبناني في أعقاب الخسائر الفادحة التي تكبدها المسلحون في المناطق الشامية المجاورة.

نحن نعتقد أن الفهم الصحيح لمعارك الجرود لا يمكن أن يحصل إلا في سياق وعي ما يجري على مستوى العمل الميداني في الشام. فمنذ اجتماع الأستانة الثالث، توافق ثلاثي الدول الراعية روسيا وإيران وتركيا على خلق أربع مناطق “خفض التوتر”، لكنها لم تشهد عند التطبيق سوى نجاح جزئي. وجاء بعد ذلك التوافق الروسي ـ الأميركي ـ الأردني على منطقة مماثلة في السويداء ودرعا والقنيطرة. وأخيراً حلّ دور غوطة دمشق الشرقية بتفاهم روسي ـ مصري… لينطلق الآن حديث عن الشمال الغربي بالتعاون مع تركيا.

ما يجري على الأرض هو عملية تفكيك للميدان العسكري في الشام: مناطق تلتزم “خفض التوتر” وأخرى تواصل القتال. والشعار الأساسي في الحالتين هو “مكافحة الإرهاب”. لكن علينا أن نتذكر حقيقة ما كشفت عنه مؤتمرات جنيف التي لم تحقق خرقاً حتى الآن، وهو أن “المعارضة” المقبولة دولياً تتواجد جنباً إلى جنب مع الجماعات الإرهابية. ما يعني أن الجهات الدولية الفاعلة لم تستطع أن توجد الطرف “المعتدل المقبول” للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الوفد الشامي الرسمي. وهذا ما يعرقل مجال البحث عن تسوية سياسية للأزمة الشامية على المدى البعيد.

وفي ضوء عملية التفكيك هذه، بات الميدان العسكري الشامي بمثابة جزر متباعدة يتم التعامل الآني مع كل منها بمعزل عمّا يجاورها، لكن وفق خط بياني إستراتيجي تصاعدي ينطلق في اتجاهين: أولاً ـ القضاء على الجماعات الإرهابية أينما كانت، من الرقة إلى دير الزور إلى البادية الشامية إلى شرقي حمص (جيوب جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع نموذج منها). ثانياً ـ الفرز الداخلي للجماعات المسلحة في المناطق الواقعة خارج سلطة الدولة. وهذا ما حصل في إدلب ودرعا والغوطة الشرقية خلال الفترة الماضية، وهو أمر مرشح للتصعيد مع توسع مناطق “خفض التوتر”.

“المعارضة” الشامية المسلحة، سواء المعتدل منها أو المتطرف أو الإرهابي، تجد نفسها أمام استحقاقات الخيار والفرز. وهذا ما بدأت ملامحه تلوح في أفق التوازنات الداخلية في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة. ففي إدلب، على سبيل المثال، حسمت “النصرة” الوضع لصالحها بحيث أصبح من المتوقع أن تكون المعركة المقبلة هناك بعد الانتهاء من تطهير الرقة ودير الزور. أما في الغوطة الشرقية ودرعا، فقد حدث العكس، إذ توافقت “الفصائل المعتدلة” على عزل “الجماعات المتطرفة” من أجل الحفاظ على الهدنة المدعومة إقليمياً ودولياً.

لا شك في أن معارك تحرير جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك ستترك أثاراً سياسية إيجابية على مستوى الساحة اللبنانية الداخلية. غير أن النتائج الأهم هي تلك التي سيتم قطافها لاحقاً عندما يتطرق المفاوضون في جنيف إلى المسائل الأشمل المتعلقة بصياغة مستقبل الشام لجهة الدستورالجديد للدولة وآليات إنبثاق السلطة. وقتها سيتم النظر إلى معركة الجرود بوصفها مدماكاً في عمارة التسويات السياسية!