مركز الأمناء الباحثين” ضرورة قومية ملحة- د. تيسير كوى”

image_pdfimage_print

مركز الأمناء الباحثين” ضرورة قومية ملحة د. تيسير كوى “

ظل سعاده يعلم حتى آخر لحظات حياته الجسدية. فقد طلب من كبير قتلته أن يمتنع عن وضع عصابة على عينيه عند قتله، فرّد هذا أن القانون يتطلب ذلك فما كان من سعاده إلا أن قال إنه يحترم القانون. ثم طلب من كبير القتلة إياه أن يزيل الحصى التي كانت تؤلم ركبته، ولما امتثل القاتل شكره سعاده. هذا آخر ما علمنا إياه هذا العملاق الذي أعطى الكثير المفيد وأرسى أسس عودة سورية إلى ساحة الفعل في العالم قبل أن يغيبه الجهل والحقد

بعد فقد سعاده، مرّ الحزب السوري القومي الاجتماعي بفترات عصيبة جداً منعت قياداته المتعاقبة كافة من محاولة الاستفادة من الأسس المشار إليها، بل ساهمت كل هذه القيادات عينها من دون أن تعي أو تدري بتقسيم الحزب. فصار هذا الصرح الحزبي الذي تزعمه سعاده وأورثنا إياه ثلاثة أحزاب على الأقل. ويقال أن ثمة “أحزاباً نائمة” أخرى قد تبرز إلى الوجود باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لقد سبّب هذا الوضع آلاماً جارحة عميقة لعدد كبير جداً من القوميين الاجتماعيين، ما دفع البعض غير القليل منهم إلى الانزواء أو حتى إلى الانتماء إلى “أحزاب”  لا تقدم ولا تؤخر بل تشتت قوى الأمة وتضعفها، وأحياناً تميتها مثل بعض الأحزاب “اليسارية” على سبيل المثال.

في مطلع العام 1980، سهل الحزب لي زيارة إلى الوطن بينما كنت في إجازة علمية من الجامعة التي كنت أدرّس فيها في المملكة المتحدة. وقبل هذه الزيارة كنت قد أرسلت كتاباً إلى السلطة الحزبية التي كان يرأسها وقتذاك الأمين الراحل الدكتور عبدالله سعادة اقترحت فيه إنشاء مكتب دراسات في الحزب. ولما وصلت بالفعل إلى بيروت، قابلت بناء على اقتراح من الرئاسة الموقرة مسؤولاً حزبياً أطلعني على ما كان قد أنشئ في الحزب، أي مؤسسة تعنى بالدراسات. فوجدت ما اطلعت عليه بدائياً وساذجاً رغم أنه كان يشكل بداية نهج محمود. في أثناء تلك الزيارة للوطن لمست أن الأجواء الحزبية العامة لم تكن تشجع أبداً على استحداث ما كان يجول في خاطري. ولم يتفهم من الذين قابلتهم من الحزبيين ما كنت أرنو إليه إلا الأمين الراحل البروفسور حافظ قبيسي الذي عرض علي أن أبقى في الوطن على أن يتكفل هو بـ “توظيفي” مدرساً في الجامعة اللبنانية. بعد درس الموضوع ملياً، وبالنظر إلى ما كان سائداً من أجواء في الحزب وفي الوطن كله، قررت أن أعود متألماً أشد الألم إلى المملكة المتحدة وأن أحاول أن أخدم الحزب والوطن من بعيد. لكني أعترف بأنني لم أتمكن من أن أفعل ما أستطيع أن أفخر به، ما عدا مداخلتين هامتين ألقيت واحدة منهما في مهرجان أصيلة في المغرب، والثانية في تجمع “عربي” أميركي في جامعة كامبرج أو أوكسفورد في بريطانيا.

لعل أعظم ما أعطاه سعاده، بالنظر إلى ما تشهده الأمة حالياً من تشرذم وتفكك وتقهقر، أنه رسّخ الهوية السورية وحدد معالم الوطن السوري، أي الإيمان بالقومية السورية الذي صار بالنسبة إلى القوميين الاجتماعيين كافة إيماناً يشبه الإيمان الديني يحملهم دائماً على محاولة تطبيق مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، بحيث صار الوطن السوري مع قضاياه ومشاكله ومستقبله بالنسبة إليهم أكثر أهمية من أي أمر آخر بما في ذلك الدين أو المذهب أو حياة الفرد، على اعتبار أن الدين فكرة وتوجه عام فلا يمكن أن “يضيع” أو يزول لكن الوطن صار الآن معرضاً للضياع لأن أكثر من دولة في العالم باتت تستضعفنا وتبوح بوقاحة وجرأة غير مسبوقة في التاريخ بأطماعها في أرضنا وخيراتنا، وتود لو ترث الأرض السورية بعد أن تتخلص من السوريين وعنفوانهم وتاريخهم وحضارتهم.

بناء على ما سبق وغيره، وللاستفادة إلى أقصى حد ممكن مما تركه العظيم سعاده، أقترح: إنشاء مجلس أمناء ملحق بعمدة الثقافة أو بعمدة جديدة تسمى عمدة البحث العلمي، لا ينتخب أميناً فيه إلا من يحمل شهادة جامعية عليا تم الحصول عليها بموجب بحث علمي رصين يفضل أن يكون ميدانياً، أو من يكون مؤهلاً بفضل تحصيله الشخصي للقيام بأبحاث من هذا القبيل. يكلف مجلس الأمناء هذا القيام بدراسات اجتماعية واقتصادية / مالية وتاريخية وعسكرية وفنية وتربوية وتخطيطية عامة إلخ … في مجالات الحياة والعلوم كافة. ويكون الهدف الأساس من هذه الأبحاث الكشف عن الحقائق الراهنة في حياة السوريين وعن مواقفهم الفكرية وما يحركهم ويدفعهم للفعل.

أضرب مثالاً: التقيت شاباً دمشقياً منذ فترة قدم إلى المملكة المتحدة بغية نيل الدكتوراه في مجال القانون. اقترحت عليه العودة إلى سورية ودراسة مدى تقيد السوريين المعاصرين بتفاصيل التعاليم الدينية السائدة. وعرضت أن أشارك في الإشراف على قيامه بهذه الدراسة، بالإضافة إلى من تكون الجامعة في سورية الطبيعية التي ينتسب إليها كلفته رسمياً بالاشراف على دراسته. لم يتقبل هذا الشاب اقتراحي رغم أن الموضوع الذي اقترحته كفيل بحصوله على دكتوراه أو ما يعادلها، ورغم اقتناعه بعد أخذ ورد بوجاهة موضوع البحث.

ويهدف “مجلس الأمناء الباحثين” إلى دراسة ما يحسن حياة السوريين المعاصرين ويوجههم نحو تقبل مبدأ إزالة الفوارق الفكرية والاجتماعية والروحية بينهم باستلهام مبادئ الحزب الأساسية والإصلاحية. ولعل أول ما يجب على هذا المجلس أن يفعله هو أن يخطط لبرنامج تربوي تثقيفي ينسف أسس التدريس الديني والوطني الحالي كلها في الدول السورية. لقد أثبتت الحروب التفسيخية والتدميرية التي شنها الغرب وإسرائيل على السوريين خاصة والعالم العربي عامة هشاشة ما يطلق عليه حالياً تسمية التربية الدينية والتربية الوطنية. وتشير الأحداث لا سيما التي شهدتها السنوات الخمس عشرة الفائتة إلى أننا بحاجة إلى ثورة حقيقية في المجال التربوي / التوجيهي / التثقيفي تتناول عقائدنا السائدة كافة.

لقد قتل الغرب لحسابه وحساب إسرائيل سعاده بواسطة الأدوات السورية الغبية والخائنة، وانتهى الأمر ولم يعد بإمكان هذا العملاق الفذ أن يفعل أكثر مما فعل. وصار يتعين على تلامذته أن ينظموا شؤون حياة السوريين بواسطة دراسات تستند إلى عقيدة سعاده وتستلهمها، وذلك لكي يبرر هؤلاء التلامذة وجودهم بتخليص الأمة السورية مما يكبلها ويلجم روحها الخلاقة.

مسألة تمويل “مجلس الأمناء الباحثين”:

أولاً، يتعين على الإدارة الحزبية العامة أن تخصص لمجلس الأمناء المقترح ما يحتاج إليه من أموال للقيام بالدراسات المشار إليها، على أن يقوم هذا المجلس بتنظيم موازنة تبين كيفية صرف المال المطلوب.

ثانياً، يخول المجلس تقديم خدمات دراسية لمؤسسات المجتمع السوري كافة غير الحزب وللمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية كلها، وذلك مقابل بدلات مالية يستفيد منها المجلس في تمويل نشاطاته.

ثالثاً، المرجو أن يصبح المجلس مع مرور الوقت مؤسسة راسخة تتكفل القيام بدراسات علمية جادة في مجالات الحياة السورية كلها، وأن يصبح مرجعاً بحثياً ذا سمعة أكاديمية بكل معنى الكلمة يعمل لحساب الحزب السوري القومي الاجتماعي الموحد مجاناً، ولحساب الهيئات الحكومية والأهلية السورية كافة، وأن تتطور أنشطته كي تصبح لجنة من لجانه الفرعية قادرة على إنتاج الأفلام التربوية والتثقيفية وحتى الترفيهية الموجهة وبيعها والاستفادة من ريعها.

ومن الدراسات التي يجب أن تعطى أولوية النظر في ما يتعلمه أولادنا في المدارس كلها، وفي من يعلمهم، وفي ما إذا كان ما يتعلمه هؤلاء إيجابياً وضرورياً بالنظر إلى التطورات الهائلة التي يشهدها العالم يومياً.

هذا كله عينة مما يتعين على “مجلس الأمناء الباحثين” المقترح أن يهتم به ويدرسه للكشف بالضبط عن السائد في الدول السورية كافة، ومن ثمة لاقتراح القوانين اللازمة التي ترمي إلى إقناع السوريين كلهم بأن من مصالحهم ومصالح أجيالهم القادمة التقيد بهذه القوانين واحترامها على أساس أنها تجسد مبادئ الحياة الراقية التي ابتدعها سعاده.

_________________

(*)    الدكتور تيسير كوى، إختصاصي في علم النفس التربوي من جامعة لندن عام 1965. باحث تربوي ونفسي في معهد البحوث البريطاني من عام 1965 الى عام 1968. عمل مرشداً نفسياً وتربوياً للأطفال والأحداث من عام 1968 إلى عام 1973. درّس علم النفس في إحدى جامعات مدينة مانشستر البريطانية لستة عشر عاماً. له عشرات الدراسات والأبحاث باللغتين العربية والإنكليزية.

في هذا العدد<< الأكراد… المشروع المتحول-مازن بلالإدارة التغيير >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments