1

محكومون بالأمل وليس بالخيبة

تعليق على مقال “من لعنة الانشقاقات إلى خيار التيارات

 أحمد أصفهاني

كتب الرفيق زيد قطريب قبل أيام مقالاً ملفتاً للنظر بعنوان “من لعنة الانشقاقات إلى خيار التيارات” تناول فيه جوانب من أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولست أختلف مع كثير من الآراء التي عرضها بدقة ووضوح. كما أن بعض الاقتراحات التي قدّمها تشكل قاعدة لنشاطات مفيدة في المتحدات المحلية. لكني أتحفظ على عبارة قد يُساء فهمها في سياق ما قدمه سعاده على مستوى انبثاق السلطة، أو ما بقي دون إنجاز بعدما تمكنت المؤامرة من إزالة المؤسس من المعادلة الحزبية.

يقول الرفيق زيد: “مشكلة بنيوية تعصف بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وهي لا تتعلق بمجلس قومي أو مؤتمر أو طريقة لانتاج السلطة. بل تتلخص باستشهاد سعاده قبل إنجازه مهام التأسيس بشكل كامل سواء من الناحية الفكرية أم الإدارية المؤسساتية. لقد كان لدى سعاده الكثير ليفعله، لكن لم يسعفه الوقت”. وهذا صحيح من حيث الوقائع والأحداث، لكن لا يُعقل أن نضع مسؤولية “المشكلة البنيوية” على غياب سعاده الجسدي فقط!

كان سعاده الإنسان سيموت يوماً ما، طال العمرُ به أو قصر. في 19 شباط 2017 وزّعت مقالاً بعنوان “ماذا لو لم يكن الثامن من تموز؟” طرحت فيه السيناريو الافتراضي التالي: سعاده لم يُعدم في الثامن من تموز، بل صدر العفو وأبدل بالسجن المؤبد! وهكذا استطاع زعيم الحزب أن يُكمل “النواحي الفكرية والإدارية المؤسساتية”. فهل يعني هذا أن سعاده “أتم نعمته” وأغلق أبواب العقيدة القومية الاجتماعية إلى أمد غير منظور، فأصبح المؤمنون بها مجرد طائفة منغلقة على ذاتها تكتفي فقط باستعادة تراثها في ظل تطورات قومية وعالمية متسارعة؟ ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر مهم: هل تقتصر النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن على ما أنتجه سعاده بين 1932 و1949؟

ونعود إلى المسألة الأساسية التي أثارها الرفيق قطريب: هل كان مثل ذلك السيناريو سيجعل من الصعب نشوء أزمات داخلية لاحقاً؟

نحن نعتقد أنه لم يخطر على بال سعاده أبداً أن تكون القومية الاجتماعية عقيدة مغلقة، أو أن تكون كتاباته وإجراءاته الدستورية “خاتمة الرسالة”! لقد ترك لنا المبادئ التي هي قواعد لانطلاق الفكر، وعلمنا أن العقل هو الشرع الأعلى الذي لا تحده حدود دينية أو دنيوية. ثم أطلق عقولنا من قيود التقليد إلى رحاب الإبداع. ولأنه كان يتحرك في مرحلة تأسيسية مصيرية، فقد حرص على تنمية العقل القومي الجمعي من خلال إنشاء الندوة الثقافية المركزية لتكون حاضناً ومختبراً لذلك العقل. إن عبارة “الزمن لم يُتح لسعاده إكمال عمله”، والتي يلجأ إليها كثير من الرفقاء عندما يتناولون الأزمة الحزبية، هي محاولة لإعفاء القوميين الاجتماعيين منذ الأربعينات وحتى اليوم من مسؤوليتهم ودورهم في مواصلة ما كان الزعيم قد وضع أساساته المتينة الأولى.

سعاده نفسه هو نتاج عصره ومجتمعه بقدر ما هو صانع عصره ومجتمعه في تلك المرحلة التاريخية. وأنا أؤمن بأنه كان سيترك لنا عطاء مميزاً لو أن العمر أتاح له الوقوف على الأحداث العاصفة التي مرّت بها أمتنا والعالم العربي والعالم في النصف الثاني من القرن الماضي. وطبعاً كان سيغلق الثغرات الدستورية خصوصاً ما يتعلق بآليات انبثاق السلطة وتداولها. ومن هنا يأتي دورنا نحن المؤمنين بهذه العقيدة. فلننطلق من مبادئنا في رحاب الحياة، توجّه أعمالنا قيم الحق والخير والجمال، وتؤطر جهودنا مؤسسة ترعى العقل الجمعي وتصونه. فإذا أصبنا نكون قد أضفنا لبنة جديدة إلى البنية الحضارية لمجتمعنا السوري. أما إذا أخطأنا، فيأتي التصويب والتصحيح من صميم وحدة الروح التي تميّز القوميين الاجتماعيين المنزهين عن الغرضية والفئوية والشخصانية. فلا أحد بحد ذاته يملك مفاتيح جنات العقيدة، ولا أحد بحد ذاته هو القيّم المهيمن على عقول القوميين الاجتماعيين، ولا أحد بحد ذاته يحتكر الكلمة الفصل في ما هو صحيح أو غير صحيح من أعمالنا واجتهاداتنا ومساعينا التطويرية (نعم التطويرية). وطالما أننا ننطلق من المبادئ، ونحكّم العقل الجمعي، ونهتدي بمصلحة سوريا التي هي فوق كل مصلحة… فلا خوف علينا من الشطط!

نحن لا نوافق على أن “المشكلة البنيوية” التي أشار إليها الرفيق زيد “تتلخص باستشهاد سعاده قبل إنجازه مهام التأسيس بشكل كامل”، كما قال. صحيح أن غياب الزعيم المبكر حرم الحركة القومية الاجتماعية عطاء كثيرًا، لكن المعضلة تكمن في تقاعس الرعيل الأول (والذين جاؤوا بعدهم) عن تنكب عملية “إنجاز مهام التأسيس”. بل وأقدم بعضهم عامدًا على حرف الحزب نظامًا وعقيدة وممارسة عن الخطوط الكبرى للمنهج القومي الاجتماعي. فإذا كانت “المشكلة البنيوية” قد برزت فعلاً بعد استشهاد سعاده، فإن القوميين الاجتماعيين يتحملون وزر استمرارها وترسيخها.

في مقالي السابق “ماذا لو لم يكن الثامن من تموز؟” أوردت الواقعة التالية: يروي الأمين الراحل نواف حردان في مذكراته “على دروب النهضة” (صفحة 180) جوانب من لقائه حضرة الزعيم في ضهور الشوير أبان المعركة الانتخابية سنة 1947، عندما تقرر إصدار بيان خاص لمنطقة الجنوب اللبناني. فقد قال حردان لحضرة الزعيم: “ألا يتكرم حضرة الزعيم بكتابة هذا البيان أو بإملائه علي؟” فكان جواب سعاده شديد التعبير: “أتريدون أن يقوم الزعيم وحده بالأمور الكبيرة والصغيرة يا رفيق نواف؟ اجلس في الغرفة الثانية، واكتب البيان بنفسك ثم أطلعني عليه”!

لقد بالغ الرفيق زيد في قوله: “بكل بساطة كان سعاده حامل الحزب وضمانته، وعندما استشهد، انهار البناء المتين الذي أراده، وأصبح أشبه بأبنية العشوائيات التي تملأ الأمة”. هذا كلام يلغي بشطحة قلم تاريخ مئات الألوف من الذين أعطوا حقاً وخيرًا وجمالاً على مدى تسعين سنة تقريبًا… والأخطر من ذلك أنه يوصد أبواب الأمل أمام الأجيال الآتية. وأراني أسترجع عبارة الزعيم إلى الأمين إلياس جرجي قنيزح “إياك أن تكون يا رفيقي صعوبة فوق الصعوبات”!

نحن محكومون بالأمل وليس بالخيبة. فسعاده أرادنا تلامذة مبدعين… لا أتباعًا مقلدين.