1

محاكمة أنطون سعاده بالانتقام لا بالعدالة – د. عادل بشاره

الفينيق / خاص في مناسبة الثامن من تموز

لم يسبق في تاريخ القضاء اللبناني، ولا في العالم العربي، أن تمت محاكمة بقدر من السرعة والسرية كالتي تمت بها محاكمة أنطون سعاده. استمرت المحاكمةي مجملها من الخامسة في صباح 7 يوليو إلى الثامنة من مساء اليوم ذاته. وتم الإجراء بأكمله مشتملاً على مرحلة ما قبل المحاكمة والإعدام في إطار جدول زمني صارم ومحدد للتخلص من سعاده في اسرع وقت ممكن

.

ليس لهذه القضية سابقة، لأن السلطات لم تنتهك مبادئ القانون في تنظيم المحاكمة فحسب، بل لأن المحاكمة – إن ألطفنا القول – كانت مزيجا من الغباء والنفاق. كانت المحاكمة أشبه ما تكون بمسرحية قضائية، وكان الحكم مبيتاً في عقول أفراد الممثلين المشاركين إلى حد كبير. ويشير كل جانب من جوانب هذه المحاكمة بوضوح إلى السرعة مع سبق الإصرار على الإعدام بدلاً من التمسك بتحقيق العدالة. وانخرط النظام بوضوح في سعي سياسي مشين لتسريع الإعدام برفض إعطاء مهلة لاستئناف هادف وبسد كل سبيل موصل لإعادة النظر في العقوبة.

وكما هو الحال في كل دراما جيدة يتعسر قياس كافة الإيجابيات والسلبيات بدقة في قضية سعاده. ولكن يمكن القول بأن سلبيات كثيرة جداً وقعت بطريقة انتهت بسببها مظاهر حيادية القضاء قبل بدء المحاكمة. فكانت المحاكمة نموذجاً معهوداً من “سيادة السلطة بلا حكم ولا قانون.”[1]

كان نظام بشاره الخوري في إصداره حكم الإعدام على سعاده متأثراً بثلاث ادعاءات أساسية. أولها “عداوة” سعاده للبنان. والقاعدة العامة أن  مثل هذه الادعاءات السلبية لا تصمد عشرة دقائق كاملة في قاعات المحاكم العادية. صحيح أن سعاده لم يعتبر لبنان أمة بحق ذاتها، ولكن هذا لم يجعله بالضرورة عدواً للبلد بأي منزع من الخيال. وكان دائماً يرى أن الوضع القومي النهائي للبنان سوف يعتمد بشكل كامل على اللبنانيين شريطة أن يُسمح لهم أن يختاروا بحرية المكان الذي يفضلون أن يكونوا فيه. فهو لم يؤمن بالقوة أو بالدمج السياسي الاعتباطي. وعلى كل، لم يتحل نظام الخوري بالحق والنزاهة الأخلاقية بما يخول له إصدار أحكام عامة على ولاء الأفراد ولا نظير لما بذل من جهود لإضفاء هوية اجتماعية وشخصية في صيغة تقليدية جديدة، ولا نظير لميله إلى التسوية بين مصالح وضعه الخاص وبين المصالح العامة للدولة من خلال الفساد والاختلاس والتزوير والمحسوبية والتعصب المذهبي الصارخ. وفي أي بلد آخر تكون المساءلة فيه إحدى المكونات الحقيقية للدولة، لن يصمد مثل هذا النظام أمام المبادئ الأولية للديمقراطية والولاء.

ويتصل الادعاء الثاني بالخيانة. وهنا أيضا كانت القضية المرفوعة على سعاده محل عبث تام من خلال اتهامات مختلقة استناداً إلى وثائق مزورة. ولو أنها أحيلت إلى القضاء في وقت أكثر هدوءً أمام محكمة مطلعة لاستُبعد القدر الأكبر من الأدلة إما لعدم الاختصاص أو انعدام الصلة، ولكان الحكم مختلفاً بلا شك. وحقيقة أن النظام اختلق الأدلة على المتَّهم لا تقوض تهمة الخيانة فحسب، بل تمثل دليلاً صارخاً على المتهِمين أنفسهم. فحياة سعاده في طولها وعرضها، وكل شيء قاله أو كتبه أو فعله، لهو دليل قوي على كذب هذه الفرية. تظهر معظم الأدلة الآن أن الضالعين الحقيقيين في التخريب إبان حرب فلسطين في سنة 1948 كانوا هم من جلبوا تهمة الخيانة على سعاده، وأن نظام الخوري كان علم بخيانتهم ولكنه لم يفعل شيئاً.[2]  ويشير هذا التواني عن اتخاذ إجراء ما إلى مدى ضلوع النظام مع المخربين المزعومين.

ثمة ادعاء واحد على سعاده اعتبرته الحكومة خطيراً بما يكفي لتبرير إعدامه حال ثبوته، ألا وهو التمرد. بيد أن الطبيعة السياسية لهذه التهمة استبعدت عقوبة الإعدام، ويبدو أنها أجبرت الحكومة على تبني أساليب غير أخلاقية. فبدلاً من السماح للقانون باتخاذ مجراه العادي، اعترضت بفجاجة سير العملية لإثبات ظروف تجعل من الحكم بالإعدام أمراً لا مفر منه تقريباً، ألا وهي التشويه + السرعة + السرية + محكمة عسكرية + الاتهام بجريمة عظمى. كانت هذه الظروف الخمسة حاسمة في نجاح الاستراتيجية: فالتشوية للتعويض عن شح الأدلة؛ والسرعة لتفادي محاكمة علنية؛ والسرية للالتفاف حول محاكمة سياسية؛ ومحكمة عسكرية للحصول على عقوبة الإعدام؛ والاتهام بجريمة عظمى لتأمين المحاكمة العسكرية. ألقت هذه الخطة بالحكم النهائي خارج إطار الشك. إنها لم تطلب عقوبة الإعدام لسعاده، بل حددتها مسبقاً. فعُدلت القوانين الإجرائية ومبادئ الأدلة في غير صالح المتهم؛ وانطوى الأمر على أسرار وشُبه غامضة، وقُدم عون قليل على غير العادة إلى مستشار الدفاع. وجاء شطر كبير من الأدلة من أفراد كانوا أنفسهم يسعون للنجاة بحياتهم. قد تكون شهادة هؤلاء الشهود حقيقية بلا شك، ولكن مصلحتهم في تجنب العقوبة ومواقعهم في التمرد تستدعي التساؤل عن مصداقيتهم، بأسئلة لم تطرحها المحكمة قط.

كانت المحاكمة غير مقبولة من نواح أخرى؛ حيث اتفقت سرعة الإجراءات وطبيعة الأدلة وهوية القضاة جميعاً للحيلولة دون اتخاذ قرار حكيم ولضمان نتيجة ظالمة. فمن غير المتصور أن القضاة قد باشروا مهمتهم بعقول منفتحة. لكن أكبر مشكلات المحاكم العسكرية تتمثل فيما يعرف اليوم بـ “تأثير القيادة.” فبدلاً من اشتمال المحكمة على قاض مستقل ومحلفين مدنيين، فإنها تضم مجموعة من الضباط. ويمثل هؤلاء الضباط جزءً من هيكل القيادة العسكرية ويكتبون تقاريرهم إلى القادة أنفسهم الذين قرروا المحاكمة واختاروهم بعناية (وقد يكون معيارا لاختيار استعدادهم للإدانة). كما أن محامي الدفاع ضابط، أي جزء من نفس هيكل القيادة. فإذا أراد القادة الإدانة، أدرك هؤلاء الضباط أن وظائفهم في خطر، فيمتثلون عادة إلى الأمر. ولا غرو فقد جرت العادة بإسفار المحاكمات العسكرية عن نتائج هزلية.

يقع على كاهل القضاة العسكريين واجبان وفقاً للقانون اللبناني: تقرير ما إذا كان الحقائق المنصوص عليها في الاتهام ثابتة؛ والتقرير عند الحكم بثبات هذه الحقائق ما إذا انضوت القضية على ظروف مشددة أو مخففة لتخفيف الجريمة. ولكن حسب الأدلة المتاحة فإن القضاة الذين حكموا في قضية سعاده لم يكونوا على اطلاع كاف بالقانون ولا على معرفة بكل الحقائق للقيام بواجباتهم على نحو مُرض. والأدهى من ذلك أنهم كانوا من المتمسكين بأهداب النظام وأصدقاءً شخصيين للرئيس وللصُلح رئيس الوزراء.

والقول – كما قال كثيرون – بأن المحاكمة كانت ظالمة لأنها أجريت بسرعة بالغة، لا يبدي إلا العيوب الظاهرة. فالنظرة التفصيلية في إجراءات المحاكمة تثمر وعياً أكثر دقة بطبيعة هذا الظلم، لا سيما فيما يتعلق بالسرية. وعودة إلى الوراء في عام 1827 وصف الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام،[3] رائد الفلاسفة الأصوليين، مخاطر السرية كما يلي:

تبلغ المصالح الخبيثة غايتها في ظلام السرية، ويبلغ الشر بجميع أشكاله ذروته كذلك، ولا سبيل لإيقاف الظلم في القضاء إلا بالإفساح للعلانية بالتساوي؛ فحيثما غابت العلانية، غاب العدل؛ فما العلانية إلا روح العدل. وهي الدافع الأقوى لبذل الجهد، وأضمن سبيل للوقاية من الظلم، كما أنها تضع القاضي نفسه قيد المحاكمة عند مباشرته الحكم.[4]

قد تنطبق العلانية كوسيلة للمساءلة القضائية حتى في الحالات التي تستلزم بالضرورة درجة من السرية. فماذا لو كانت الأسباب الداعية إلى السرية غير مقنعة كما في محاكمة أنطون سعاده؟

في عام 1949 كان عمر النظام اللبناني دون السادسة. ولأنه أول نظام بعد الاستقلال، كان الشيء الكثير يعتمد على أدائه السياسي. والمفارقة أن سعاده قدم لنظام الخوري فرصة للبرهنة على التزامه بحكم القانون ولتوفير شعور مشترك بأن المحاكم تعمل بنزاهة، ولكن نظام الخوري لم يفعل. فقد اختار بدلاً من ذلك وضع سلطته ومصلحته الخاصة فوق سلطة القانون ومصلحته. والقانون كما تقول كارول تشومسكي “يجب أن يتخطى الممارسة الروتينية للسلطة، بل يجب أن “يرشد ويعلم” الخاضعين له وأن يبرهن على نفسه أخلاقياً في عيون المحكومين وفي عيون الطبقة الحاكمة كذلك.”[5] وتضيف:

يجب على المجموعات التي تصنع السياسة أن تشاطر معايير السلوك التي ينص عليها القانون أو تقبل بأن النظام الذي يثمر تلك المعايير يمثل أفضل مصالح المجتمع الذين هم جزء منه، حتى وإن كانت بعض الأحكام لا تتناسب مع مصالحهم الشخصية. فالقانون يؤيَّد—ويسري—فقط طالما أنه يبرهن على القيم المشتركة للمجتمع أو كان ثمرة لعملية يرى المحكومون أنها مشروعة.[6]

يجب أن يفسح كل اعتبار للسياسة الحكومية المجال لمبدأ العملية القضائية العادلة لأن نموذج المحاكمة العلنية العادلة يمثل حجر الزاوية في الحكومات المتحضرة، فهي الفيصل بين الحكومات الصالحة والفاسدة:

يرى معظم الناس أن المحاكمة الجنائية هي التي تهيمن على كافة الرموز الأخرى للدلالة على أن هذه الحكومة حكومة القانون لا حكومة الناس. إنها تمثل نزاهة الدولة كمنفذة للقانون، وتمثل في الوقت ذاته كرامة الفرد وإن كان خصماً علنياً للدولة أو منشقاً أو أصولياً أو كان مجرماً عنيداً. لذا فإن المحاكمة العلنية بالغة الأهمية للهيكل الأيديولوجي بأكمله لأي حكومة، من حيث أن اعتماد وسائل منهجية وسريعة لإنزال العقوبة بالأفراد ليس إلا دليلا مؤكداً على انعدام الاستقرار والأمن.[7]

ولأن نظام الخوري أصر على التخلص من سعاده، فقد تخلى متعمداً عن واجهته الليبرالية وأقبل على التزوير. فصاغ التهم وراجعها بعناية لتشديد الادعاءات على سعاده، وشوه الحقائق عن عمد ليغطي على سوءاته. وبعد مضي أعوام كثيرة فضح أعضاء داخليون طريقة صنع التهم الكاذبة بصراحة لا تصدق، وكشفوا عن انتهاكات جسيمة ارتكبها النظام بحق القانون. كانت الأدلة المرفوعة على سعاده فيما يبدو ضعيفة للغاية وواهنة، مما جعل التشويه المنهج العملي الوحيد للإدانة. وربما تعلق بذلك أمر آخر قوامه الرغبة في تجنب عقد محاكمة سياسية ومن ثم الوقوع في مواجهة لفظية محتملة مع سعاده.

بدت هذه الرغبة في الظاهر منطقية ومعقولة نظراً لما قد تصطبغ به الأدلة من طبيعة سياسية، ومن ثم المخاطرة بتحويل المحاكمة إلى منصة للسخرية السياسية.[8] ولكن ترتكب الحكومة خيانة صريحة ومقيتة عندما تحاول تجنب المحاكمة السياسية بواسطة التزوير المتعمد للحقائق والتغاضي الصارخ عن مبادئ القانون. فبحرمان نظام الخوري سعاده من حقه في محاكمة سياسية بالرغم من الطبيعة السياسية الواضحة للقضية، لا يمكن القول حقاً بأنه قد تصرف بمنطق العدل. فأولئك الذين يبتدئون ثورة أو يحاولون فعل ذلك بلا جدوى أو حتى يراودهم أمل في أن يدمروا بمفردهم ما يرونه حكماً دكتاتورياً عن طريق تحقيق عدم الأمان للنظام القائم ما هم إلا جناة سياسيون مثلهم مثل من ينجحون في ذلك.

بل كان الأدهى من ذلك قرارُ نظام الخوري تصنيف المتهم على أنه جنائي عادي، لا كمتهم سياسي. فهذه الطريقة في النظر إلى القضايا الجنائية السياسية قد ولى زمنها، والحكومات—لاسيما فرنسا التي تشكل قوانينها أساس القانون اللبناني— قد فصلت بين الجرائم السياسية والجرائم العادية، وسنّت للأولى مجموعة من العقوبات الخاصة أخف وطأة من العقوبات العادية. وعلى خلاف الممارسات القديمة غير المتحضرة التي كان يجري تصنيف الجناة فيها وفقاً لحقائق سلوكهم الحسية، لا تعتبر العلوم الجنائية الحديثة الحقائق الحسية للجريمة شيئاً سوى بعض البراهين على معيار العامل النفسي الذي يسيطر على خصائص المجرم السلوكية.[9] وهذا يعني أن متهماً سياسياً مثل سعاده كان يجب أن يُحكم عليه ليس على أساس معيار الظروف الحسية لأفعاله بل على أساس المعايير النفسية وظروف دوافعه الداخلية “طالما شكل هذا جزءً واعياً من فعله الإجرامي.”[10]

والآن هل كانت هذه المحاكمة مجرد مثال على إساءة تطبيق العدالة؟[11] نعم، بالدرجة التي استُعملت فيها مؤسسات الدولة لتحقيق النتائج، والتي بدت ظاهرياً أنها تمثل العدالة في حين أنها في الواقع لم تمثل شيئاً سوى فساد العدالة. ولكن من غير الطبيعي إنزال وصف “إساءة تطبيق العدالة” على قضية صدر الحكم فيها بسبب خطأ بشري متعمد لا بسبب ظروف غير متوقعة انتهكت أحكام القانون.[12] فلا نستطيع مثلاً أن نصنف محاكمات التطهير الأعظم إبان عهد ستالين على أنها “إساءة تطبيق العدالة” لأن العملية بأكملها تمت في إطار مسرحي وأجريت وفقاً لأوامر عامة ومباشرة من النظام. ولا نستطيع بالمثل أن نصف قضية سعاده بأنها “إساءة تطبيق العدالة” لأن المحاكمة بأسرها كانت مؤامرة كاملة: فـ”الحكم” الذي صدر على سعاده كان بلا شك معداً وصيغته متفقاً عليها قبل أن تبدأ المحاكمة. وهذا الوصف غير مناسب لأن المحاكمة لم تكن في أبسط درجاتها بمثابة عملية قضائية تهدف إلى إحقاق الحق أو إبطال التهم المرفوعة على المتهم. لم يكن للتاريخ ولا الحقائق ولا التواريخ ولا الأدلة أهمية في هذه المحاكمة شأنها في ذلك كشأن الحياة والكرامة الإنسانية. كان الهدف إرسال المتهم إلى حتفه بأي وسيلة ممكنة.

كانت محاكمة أنطون سعاده وإعدامه يتعلقان إذن بالانتقام لا بالعدالة، وبات من العسير فهم الطريقة التي أجريا بها، لأن ذلك تم بسرعة وسرية تحت جنح الظلام، استخفافاً بالعملية القضائية في كافة أشكالها. فلم يكن الغرض من المحاكمة إثبات الحقيقة أو بطلان أي شيء خاصة ما يجرم المتهم بالتأكيد. فبالدرجة التي انطوت نية نظام الخوري على هزيمة سعاده وإعدامه، حقق النظام هدفه بما يرضيه تماماً. ولكن من وجهة نظر الحقيقة والقانون، يسجل التاريخ هذه المحاكمة على أنها أكبر فضيحة للقانون اللبناني.

هل يستطيع اللبنانيون إجبار هذا الظلم التاريخي، وإن استطاعوا، فكيف؟ لا يصح اليوم الإصرار على استجواب شخص ما عن فعل لا يمكن تبريره وقع منذ أعوام عديدة. فإن جبر الخطأ التاريخي لأسباب  فاسدة أو تلقين مرتكبيه وورثتهم درساً أمر لا معنى له ويأتي بنتائج غير مرضية. ولكن الاعتراف الصادق بأن ظلماً قد ارتُكب هو عين المطلوب للتأكيد على أنه لن يحدث تارة أخرى. وسوف يكون ذلك مقياساً حقيقياً للنضج السياسي وتعبيراً صارماً عن التضامن مع المستقبل إن استطاعت دولة لبنان أن تتفاعل بالشكل اللائق مع هذا الوضع الخاص، إذ تستلزم الواجبات الأخلاقية لهذه القضية فعل ذلك.

يتطلب جبر الظلم الذي وقع على سعاده، أولا وقبل كل شيء، اعترافاً من دولة لبنان بأن ما حدث كان ظلماً لا يمكن تبريره. كما يستطيع اللبنانيون أيضاً الإسهام بدورهم في العدالة. إنهم لا يستطيعون تغيير التاريخ، ولكن يستطيعون الضغط على السلطات لإعادة فتح القضية. لا نقول بهذا إن العدالة ملزمة أو إن دروس الماضي تؤدي بالضرورة إلى إدراك أرقى وأنبل، فالأمر بعيد من ذلك. ولكن قيمة المحاكمة الجديدة أنها سوف تنبه بشكل مباشر من يواجهون خيارات أخلاقية باحتمالات جمة يقدمها التاريخ، وأن الأفعال والقرارات التي تؤثر على مصائر الأفراد تجب دراستها بعناية.

ثمت العديد من الأسباب القانونية لمنح سعاده محاكمة جديدة، ويمكن تصنيفها كما يلي:

1- تخلل الظلم العملية بأكملها كان كافياً لإعطاء قناعة بأن المحكمة كانت تحت تأثير العاطفة والتحيز في الوصول إلى حكمها.

2- التلاعب بالأدلة للتأثير على المحكمة.

3- ممارسة المكائد بخداع لعرقلة إجراءات التقاضي أو للحصول على ميزة بلا وازع من ضمير.

4- عدم مناسبة الحكم لأنه ضد القانون أو غير معقول، ويبدو أنه جاء نزولاً على التحيز لا على أساس الحكم بروية.

5- اكتشاف أدلة مادية جديدة منذ المحاكمة بما قد يأتي بنتيجة مختلفة.

6- عدم تناسب الحكم بالإعدام مع التهم.

 واليوم يتحدث معظم اللبنانيين بودّ عن سعاده، ولم يعودوا يؤمنون بالقصص الخرافية التي حاكها خصومه حوله، بل يرون بأنه عومل بظلم. لخص رئيس الأمن العام السابق للبنان دفقة التعاطف مع سعاده في جملة واحدة بقوله: “هلل بعض الناس لقتل سعاده، ورقص بعضهم فرحاً، وبقي آخرون صامتين. إنني لبناني فوق كل اعتبار، ولكن لو علمت أن لبنان سيؤول حالها إلى ما هي عليه اليوم، لقاتلت في خندق أنطون سعاده.”[13] وبالرغم من هذا التعاطف فقد تجاهلت حكومات لبنانية متعاقبة طلبات إعادة المحاكمة.[14] يُرجع البعض السبب في ذلك إلى أن النظام اللبناني لا يستطيع ببساطة مواجهة التوابع السياسية للمحاكمة الجديدة فضلاً عن التبرئة الرسمية. ويشير آخرون إلى مشاكل فنية لفقد السجل الموثق لما وقع في المحاكمة أو لغياب الشهود الأساسيين. كما أن القانون الجنائي اللبناني لا يسمح بإعادة محاكمة القضايا الجنائية التي لا يمكن التراجع في أحكامها. ينطبق هذا القيد بشكل أخص على القضايا العسكرية، والتي قد تكون سبباً آخر لتقرير نظام الخوري محاكمة سعاده محاكمة عسكرية بدلاً من إرساله إلى محكمة جنائية عادية.

صحيح أن إعادة المحاكمة في بعض القضايا الجنائية مسموح بها وفقاً للقانون اللبناني، غير أنها لا تنطبق على سعاده.[15] ومع ذلك يمكن جبر المشكلة. وإحدى طرق العلاج تكون بتعديل القانون الجنائي لا سيما المواد ذات الصلة. وهذا سوف يزيل حاجزاً قضائياً كان لا يمكن تخطيه، وسوف يمهد الطريق لعقد إعادة محاكمة بعد الوفاة، ولكن هذا لا يحل المشكلة تماماً. فبدون سجلات المحكمة الأصلية سوف تبقى إعادة المحاكمة عسيرة من الناحية الفنية. “هل هذا يعني أن من خبأ الملف أو أتلفه قد أغلق كافة الأبواب في وجه إعادة محاكمة سعاده واسترجاع العدل؟ يبدو الأمر كذلك.”[16] على أي حال، سوف يكون تعديل قانون الجنايات اللبناني في صالح العدالة بغض النظر عما يشعر به العامة إزاء هذه القضية المأساوية.

والمسار البديل هو إقامة هيئة مستقلة. وهذه الطريقة لها سوابق تاريخية، ولكنها بالغة التنوع والتعقيد بما نعجز عن تناوله بالتفصيل في هذا المقام.[17] في قضية سعاده سوف يتعين على الهيئة المستقلة الوفاء بشروط قاسية جداً، إن أرادت أن تنجح. يجب تأسيسها بهدوء وتعقل للحد من التحيزات السياسية والشخصية والتدخل الخارجي من أصحاب التأثير المباشر في القضية. وسوف يتعين على أعضائها أن يكونوا من ذوي الاختصاص للتعامل مع قضية بمثل هذه الحساسية الكبيرة، وهذا يعني أن درايتهم بالضروريات القانونية والسياسية يجب أن تكون ثابتة لا تزعزع. وفي نهاية المطاف سوف تعتمد الهيئة المستقلة في تناولها مأساة أنطون سعاده الحزينة على استعداد اللبنانيين لنبذ رؤيتهم الضيقة عن العدالة وإقرارهم بأن الحقيقة والعدل ضروريان لمواجهة تحديات المستقبل وخيارات الحاضر الأخلاقية. وفي هذه المرحلة ينبغي أن تكون قضية سعاده بمثابة “تذكير بخطورة الانحراف عن مسار العدالة في القضاء وخطورة القبول الأعمى بتلاقي مصالح الدولة ومصالح العدالة بالضرورة.”[18]

حقيقي أن لا قدراً من التعويض يمكنه جبر الظلم التاريخي على نحو سليم لا سيما إن انضوى الأمر على ميتة مأساوية. ولكن الجبر الرمزي لهذا الظلم البيّن يجعل من اللبنانيين شيئاً مختلفاً عما يمكن أن يصيروا إليه:

تتجلى فائدة الاعتراف بالظلم التاريخي في المعنى الذي يتقاسمه مع أحداث ظالمة أخرى ربما تقع في المستقبل. ويتمثل شجبنا للظلم التاريخي في التعبير عن القيمة التي تسيطر على استجابتنا للخيارات التي نواجهها في الواقع. كما أنه يقوي مبادئنا التي تتيح لنا التخلي عن الأفعال التي قد تهدد معنى هويتنا وقيمتنا الأخلاقية. يجب علينا كأمة اجتياز الحكم الأخلاقي على حوادث الظلم التاريخية، لأن إدراك الماضي على هذا النحو الخاص يجعلنا منفتحين له، ويساعدنا على تقبل هذه الأفكار والقيم التي نؤكد عليها ونطبقها كشعب ديمقراطي في رسم المسار العادل لأفعالنا.[19]

يوفر التاريخ دروساً تجعل من غير المرجح تكرار أخطاء الماضي. ويجب ألا تغيب أهمية ذلك عن الذين يدركون المعنى الأكبر للحقيقة والعدل.

اعتقد مؤيدو أنطون سعاده طويلاً أن محاكمته قام بها نظام فاسد بمعونة من السلطات القضائية الملوثة والمستعدة لتجريم مكافح نبيل والحكم عليه بالموت كوسيلة لصرف انتباه العامة عن سياساتها الرجعية. وكما رأينا فإن صنيع نظام الخوري-الصلح والمحكمة العسكرية لم يف بالمعايير المتوقعة منهما. ولكن هذا لا يعني أن سعاده قد قتل من أجل جريمة. فإن الأحداث والمكائد التي سبقت محاكمته تشير إلى رغبة جامحة من وراء الكواليس في التصفية كسبب أساسي لإعدامه. ويتعين في هذه الحالة اعتبار انتفاضة يوليو ذريعة للإعدام وليست سبباً له.

وبالمثل، فإن اعتبار إعدام سعاده جزءً من مؤامرة شريرة يوهن من السلوك السياسي الطائش لمن أقروا به أو شجعوه. والحقيقة الأساسية هي أن إعدام سعاده كان مخططاً ونُفذ بقدر كبير من العقلانية والروية. كان مرتباً له بوعي لتقويض تأثيره والحيلولة دون الوصول إلى أي مساحة لسياسات المعارضة والاختلاف خارج نطاق الحدود المعتادة. كما كان الغرض منه صارخاً وواضحاً، وهو وضع نهاية لروح التفاؤل الثوري والتفكير المستقل الذي كان يشجعه سعاده وينشره. يُقال إن الدول والأنظمة تميل إلى القمع الخفي والتصفية الجسدية للخصوم إذا فشلت في استحضار المهارات والموارد المناسبة للتعامل معهم.[20] ينتمي نظام الخوري الذي قتل سعاده في 1949 إلى هذه الفئة.

وبنظرة إلى الماضي نجد أن سعاده قتل لأنه كانت ثمت ضرورة ونية لقتله. فكان ما يتحلى به من رؤية تجمع ولا تفرق، وصعود قومي أصيل جديد، ووضوح في القصد وشجاعة في تحدي خصومه الأقوياء، أعطاه كل ذلك سلطة أخلاقية ورمزية وجعله لا يتفق مع تركيبة الأوضاع القائمة. رأى كثيرون أن رجلاً يحمل رؤية كهذه يجب ألا يُترك حرّاً طليقاً قدر الاستطاعة. قد يكون نظام الخوري قرر من البداية أن يقضي بالموت على سعاده بلا رجوع في ذلك، ولكن القرار لم يكن وليد اللحظة. وكان اعتقادهم الأكيد أن الموت شر لا بد منه لتخليص البلاد من سعاده، ومن ثم من رؤيته وحركته السياسية هو أساس ذلك القرار.

كتب جي. بوير بيل منذ زمن: “يُقتل بعض الرجال لسبب واضح وهو أنهم رموز؛ ويُقتل آخرون إنهاءً للقوة التي فيهم.”[21] فالقوة التي حازها سعاده لم تكن سياسية ولا عسكرية بل كانت قوة “الفكرة والحركة” المتقدة بنار الوعي القومي العميق والظمأ إلى الاستقلال والحرية السياسية. ومن المفارقات أن “الفكرة والحركة” التي أوشكت أن تكون ميزة فارقة في حياة سعاده قد أصبحت سبباً سياسياً لصعوده وأفوله.

قد يكون سعاده قد حقق لقضيته بموته أكثر مما كان يحلم بتحقيقه إبان حياته. ولكن لا ينبغي أن يقلل هذا من حجم الظلم الكبير الذي وقع عليه وإلى أن يتضح الأمر جلياً وتثبت الحقيقة كاملة، يحق وصف محاكمته وإعدامه بأنهما اغتيال قطعاً.[22]

[1] روبرت بي. باتريدج، “أيها القتل المروع.” لندن: روبيكان بريس، 1998: 53

[2] انظر أنطوان بطرس، “مطامع صهيون في لبنان” في قصة محاكمة أنطون سعاده وإعدامه. بيروت: شمالي وشمالي، 2002 : 285-304.

[3]  تشارلز ميلنر أتكينسون، جيرمي بنثام: حياته وأعماله. نيويورك: إيه. إم. كيلي، 1969

[4]  جي. بنثام، الأسس العقلية للأدلة القضائية، ج. 1 (لندن: هنت وكلارك، 1827) قارن 10، اقتباس جي ديكسون في نوفا سكوتيا (إيه.جي.) راجع ماكنتاير، (1982) ١ إس.سي.آر 175: 183-84

[5] كارول تشومسكي، “محاكمات حرب داكوتا-الولايات المتحدة: دراسة في الظلم العسكري.” مجلة ستانفورد القانونية، ج. 43. رقم. 1 (نوفمبر، 1990): 94.

[6] المرجع السابق.

[7] ثيرمان أرنولد، “عملية التقاضي في المحاكمات.” تواريخ الأكاديمية الأمريكية في العلوم السياسية والاجتماعية، ج. 300، الأمن الداخلي وحقوق الإنسان،(يوليو، 1955): 124.

[8] تكتيكات المواجهة والسلوكيات السخيفة التي وقعت في محاكمة الثمانية بشيكاغو دليل على كيفية وقوع هذا. انظر إيه. إتش. وايلر، “سيرك مؤامرة شيكاغو الكبرى،” نيويورك تايمز، 31 مايو 1971. وأيضا، كلافير وجودي وجون سبيتزر (محررون)، محاكمة المؤامرة. إنديانابوليس: بوبس ميريل، 1970.

[9] ثيودور شرودر، “تعريف الجرائم السياسية”. مجلة ميشيغن للقانون، ج. 18، رقم 1 (نوفمبر، 1919): 34.

[10] المرجع السابق،35.

[11] يصف جون رولز إساءة استخدام العدالة بأنه: “عدالة إجرائية ناقصة متمثلة في محاكمة جنائية. والنتيجة المرادة هي وجوب إدانة المتهم فقط في حال ارتكابه الجريمة التي يتهم بها. وتعقد المحاكمة للبحث عن الحقيقة وإثباتها في هذا الخصوص. ولكن يبدو أنه من المستحيل سن الأحكام القضائية لتقود دائماً إلى النتيجة الصحيحة. وتبحث نظرية المحاكمات في الإجراءات وقواعد الأدلة المنظور فيها بعناية فائقة لتحقيق هذا الغرض الذي يتناسب مع غايات القانون الأخرى. ويتوقع على نحو معقول إجراء ترتيبات مختلفة للحكم في القضايا في ظروف مختلفة للوصول إلى النتائج الصحيحة ليس دائماً ولكن على الأقل في معظم الأوقات. المحاكمة إذن هي واقعة للعدالة الإجرائية الناقصة. وبالرغم من اتباع القانون بعناية والقيام بالإجراءات على نحو عادل وسليم، فقد تصل المحاكمة إلى النتيجة الخاطئة. وعليه قد يدان البريء ويطلق سراح الجاني. هذه هي الحالات التي ينطبق عليها وصف إساءة استخدام العدالة.” انظر نظرية العدالة. كيمبردج: مطابع جامعة هارفارد، 1971 : 85-86.

[12] المرجع السابق.

[13]  صباح الخير، بيروت، 7 يوليو، 1980.

[14]  انظر أنطوان بطرس، قصة محاكمة أنطون سعاده وإعدامه. بيروت: شمالي وشمالي، 2002 : 178-181.

[15] انظر المواد 349-62 من القانون الجنائي اللبناني.

[16] أنطوان بطرس، قصة محاكمة أنطون سعاده وإعدامه. بيروت: شمالي وشمالي، 2002 : 178.

[17]  تكفي أمثلة ثلاثة: في يناير عام 1623 برأ مجلس العشرة أنطونيو فوسكاريني بعد موته بعدة أشهر بعد انعقاد الإجماع على خيانته وإعدامه (انظر موراي براون، “أسطورة تبرئة أنطونيو فوسكاريني.” النهضة والإصلاح/دراسات المجتمعات الكندية للنهضة، ج. 25، رقم. 3 : 25)؛ وفي عام 1980 أي بعد 347 عاما من إدانة غاليليو من محكمة التفتيش الرومانية لتدريسه فرضية كوبرنيكوس على أنها حقيقة مفادها أن الشمس هي مركز نظام الكواكب، أعيدت محاكمته وتمت تبرئته (انظر “إعادة محاكمة غاليليو: الآن العالم يدور.” في أخبار العلوم، ج. 118، رقم. 18 (1 نوفمبر 1980: 277)؛  وفي مرحلة ما بعد ستالين، أعيد الاعتبار بشكل كامل لأكثر من عشرة شخصيات قيادية من عقد 1930 بالإضافة إلى الذين تم التخلص منهم في عقد 1940 لا سيما المنخرطين فيما يسمى بـ”قضية لينينغراد،” (انظر سامويل إيه. أوبينهايم، “رد الاعتبار في الاتحاد السوفيتي بعد عهد ستالين.” فصلية السياسة الغربية، ج. 20، رقم 1 مارس، 1967): 97-115

[18] براين هاريس، الظلم: محاكمات الدول من سقراط إلى نورمبيرج. لندن: سوتون للنشر، 2006: 12.

[19] بوهدان كوردان، “جبر المظالم التاريخية.” خطب كندية: قضايا اليوم، سبتمبر 1993. موقع www.infoukes.com

[20] انظر جينيفر إيرل، “الدبابات والغاز المسيل للدموع والضرائب: نحو نظرية لقمع الحركات.” النظرية السوسيولوجية، ج. 21 (2003): 44-68.

[21] جي. بوير بيل، “الاغتيال في السياسات الدولية.” فصلية الدراسات الدولية، ج. 16، رقم 1 (مارس، 1972): 82.

[22] فكر، بيروت، رقم 73، 1 يوليو 2000 : 76.