ما بعد التبدد
لنعترف. لقد دخلنا، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين، في مرحلة التبدد التي حذَّرنا منها سعاده. نحن مبددون بين أربعة تنظيمات. نعم – لقد ارتفع العدد من ثلاثة إلى أربعة – ناهيك عن المنكفئين. لقد وصلنا إلى وقت لم يعد يجمعنا فيه سوى مأتم نودع فيه راحلًا كبيرًا، وحتى هذه المناسبات لم تسلم من المناكفات!
في القسم الأخير من كتابي “إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية“، الذي صدر عام 2009، وكان القسم بعنوان “كي لا تزول ويتبدد أتباعها“، أوردت ثلاثة فصول تحت العناوين التالية: “مؤسسة بلا غاية” و”أسباب الانحراف وآليته” و”من هنا إلى هناك“. الفصل الأول عيّن السبب الرئيس لأزمات الحزب في “إهمال غايته”، والثاني لخّص الآلية التي استُخدِمت في ذلك بكلمتي “الاستسهال والاستنساب“، أما الثالث فطرح السؤال “هل ثمة مخرج من هذا المأزق؟“، والجواب الذي وضعته يومها بصيغة مقترح أمام القوميين عامة هو:
قيام كتلة قومية كبيرة من القوميين المفكرين والمثقفين والمتمرسين في حياة هذا الحزب، والمتمسكين بعقيدته وغايته وأخلاقه، تضع نصب أعينها إخراجه من محنته وفق خطة عمل وجدول زمني مكثف يستندان إلى:
- الاعتراف بضرورة قيام تغيير جذري في مختلف نواحي الحياة الحزبية باستثناء عقيدة الحزب وغايته وأخلاقه.
- فهم هيكلية البناء الإستراتيجي للحزب، وتسلسله المنطقي من نظرته إلى غايته وأهدافه، وفهم مركزية غايته لاستمراره وحياته.
- استيعاب أهمية العامل الأخلاقي المناقبي في هذه الحركة كونه روح الحزب والوعاء الذي تعيش فيه النهضة القومية وحركتها.
- فهم “إطار إدارة الإستراتيجية” (الإدارة والسياسة والحرب) الذي وضعه سعاده، وكيف حرك به حزبه كرًا وفرًا، هجومًا وهدنة، ولكن دائمًا بثبات نحو الهدف.
- قليل من التواضع أمام سعاده، وعدم السماح “للكبرياء الفكرية” عند أي كان من التغلب على المصلحة القومية.
بين ذلك التاريخ واليوم، ينطوي عقد من الزمن. أعترف، وبخجل كبير، أن هذه الكتلة القومية الكبيرة لم تقم، بالرغم من محاولات عديدة لقوميين مخلصين من شتى أنحاء العالم. في الوقت نفسه، أرى أن صعوبة قيام مثل هذه الكتلة تزداد للأسباب التالية:
- هناك جيل من القوميين، لنُسمِّه جيل الرعيل الثاني، أي الذين انتموا الى الحزب بين الخمسينات والسبعينات، من مسؤولين ومثقفين وأصحاب اختصاص او خبرات، يغادرنا أعضاؤه واحدا تلو الآخر دون ان يتركوا، في معظمهم، أثرا مكتوبا يلخّصون فيه تجربتهم الحزبية بما يفيد الأجيال القادمة. لهذا الجيل خاصية صراعية عظيمة، فكرية وعملية وثقافية، أدت إلى نجاحات كبيرة. ولكن بالرغم من هذا فإن الاخفاقات كانت أكبر.
- حتى ولو ترك أولئك مثل هذه الأثر المكتوب، فهناك جيل جديد من القوميين او المحبذين يستمد معظم أعضائه ثقافتهم الحزبية والعامة من وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يمتلكون أدوات القراءة النقدية كما يجب. إنهم، بالتالي، بعيدون عن القدرة على الكتابة التحليلية المعمّقة، أو على وضع الخطط بعيدة الأمد، ويفتقرون إلى الحافز والخبرة الصراعيين.
- الوضع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمعيشي والأخلاقي المتردي الذي سببته في الغالب كرة النار الصهيونية المدمرة بدءا من فلسطين، مرورًا بالأردن فقبرص فلبنان فالعراق والشام، والتي تجبر الانسان على التفكير بتأمين حاجات اليوم الآنية من خبز وماء وكهرباء وغاز، عوضًا عن التفكير بمستقبل زاهر وحياة أجود.
- هذا الجيل مشتت في نظرته إلى الحياة، ويستمدها، أقله بعض أعضائه، من نظرات دينية – سياسية خارجية، تتمظهر في ممارسات تخلط القومي بالديني والمذهبي، ولا حاجة للتفصيل.
- إن ممارسات التنظيمات الأربعة كلها تدور في نفس الفلك: التجبر والعناد، التكرار الممل، والبحث عن داعم خارجي.
كان من المؤمل ان يقوم جيل الرعيل الثاني بنقل العبر من تجربته الطويلة إلى الأجيال الجديدة. أن يعلمها كيفية الاستفادة من أسباب النجاحات وتجنب أسباب الإخفاقات، أن يضع وإياها الخطط، وأن يقوم بالتدريب اللازم حيث يجب. ولكن هذا لم يحدث، والدليل هو الوضع القائم.
هل يعني هذا ان لا خروج من أزمة الحزب؟ كلا. إنه يعني أننا فشلنا في وقف التبدد، وعلينا البدء بالتخطيط لمرحلة ما بعده.
2019-01-20