ماتت المملكة .. وعاش الملك

image_pdfimage_print

في إحدى البلدات الواقعة في ريف المحيط الهندي، وقف الملك على شرفة قصره الفاره، بعد أن أحسّ بدنوّ أجله، وانتابه القلق حيال ما ستؤول إليه المملكة بعد موته، فراح يفكر وهو يتأمل الشعب المعتر أثناء انهماكه بأعماله اليومية، ثم قال في نفسه:

يا شعبي المسكين، كيف سيكون حالك من بعدي؟ من سيؤمّن عيشك الكريم ويحفظ مكتسبات طبقاتك الكادحة؟.. كيف ستعمل النقابات ودور العجزة والأحزاب إذا رحلت؟. من سيحقق الشعارات التي رفعناها طيلة مئة عام من العمل معاً؟. “تشلهم” الملك ودمعت عيناه وهو يضيف: يا شعبي الطيب، كيف أموت وأتركك وحيداً في مواجهة الامبريالية والمخططات الصهيونية والرجعية؟.

فكر الملك طويلاً وهو يزرع الشرفة ذهاباً وإياباً، ثم قال: لابد أن آخذ الشعب معي إلى الآخرة، فهكذا يبقى تحت إشرافي المباشر، وأضمنُ أن نكمل مسيرة التنمية بلا إخفاقات ونحقق الشعارات بلا انحرافات عن المسار!.. وبالفعل أصدر الملك أوامر البدء بحفر ملايين القبور كي يكون الشعب مستعداً للمغادرة إلى “جهنم الحمرا” حين تبدأ علائم احتضار الملك، وذلك حتى يدخل الجميع على الإله دخلة رجلٍ واحد تجعله لا يتردد في إصدار عفو جماعي يضمن ذهابه وأعوانه إلى الجنة، إذا ما فكر بعض الملائكة بتقديم ملفات الفساد وقضايا التعذيب وغياب العدالة في توزيع ثروات البلاد، إلى الله سبحانه وتعالى..

بدأ حجز القبور وفق قوائم أشرف عليها الملك شخصياً، ونشأت على الهامش مكاتب عقارية تبيع المدافن المشمسة ذات التهوية الجيدة بأسعار كبيرة، كما شهدت قبور الواجهة التي تطل على شوارع الجبّانة الرئيسية طلباً متزايداً من قبل المواطنين.. البعض قال: لقد قضينا عمرنا في قبور العشوائيات غير المخدّمة، والآن في الآخرة نريد قبوراً “شرحة” ومحترمة عليها العين، حتى نشعر أن صبرنا في الدنيا لم يذهب على الفاضي.. لقد أقيمت حلقات الدبكة والمهرجانات احتفاء بقرار “تمويت” الشعب تزامناً مع موت الملك، وراح الخطباء يشيرون إلى أهمية هذا “الاندفاس” التاريخي الكبير في تحقيق “آخرة فاخرة” تكون أمثولة للشعوب الأخرى التي ما زالت مغشوشة بمباهج الدنيا..

ميزانية المملكة لم تكن تكفي لشراء الأكفان وحفر القبور وتشييع الجنازات لشعب كاملٍ لم تُدرج تكاليف موته في الخطة الخمسية للحكومة.. لذلك اقترح مسؤول المالية على الملك الإعلان عن قرض يُسمى “عصّة القبر”، يعطى للميتين بكفالة أمواتٍ سابقين، وتُخصص فوائده لسداد تكاليف الآخرة وتأمين متطلبات المملكة بعد الوفاة!.

انتهت إعدادات الموت خلال فترة قصيرة، وسكن أبناء الشعب في القبور سلفاً كي يتخلصوا من الضرائب وفواتير الكهرباء وأجور المواصلات وجميع التكاليف التي لا يدفعها الميتون عادة، لكن نبأ رحيل الملك تأخر، وفي كل مرة كانوا يوجهونه فيها على القبلة، كانت صحته تتحسن ويعود للحياة كأنه بسبع أرواح.. هذا التأخير لم يؤثر على انبساط الشعب بالاخرة التي وجدوها رائعة لا يمكن للملك والحكومة أن يتحكموا بها.. لقد تشبث الناس بقبورهم، ومحاولات المسؤولين لإقناع الشعب بتأجيل موته ذهبت سدى…

..ماتت المملكة.. وعاش الملك.. عرفتوا كيف؟

في هذا العدد<< ملف الشهيد نزار بنات: بيان من لجنة فلسطين ونهج المقاومة/ مخيم البقعةعميد الأسرى المقدسيين – سمير أبو نعمة >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments