ماء الحياة… مي بلاطي- من سومر إلى جونيه!-توما توما
في سنوات المراهقة، وعلى أعتاب مرحلة الشباب والوعي، نشأ عندي ولع غريب بالتراث الشعبي من أمثال وحكم ومرويات وخرافات وعادات وتقاليد وغيرها. رحتُ أحفظ عن ظهر قلب ما تستطيع الذاكرة استيعابه، وأسجل التفاصيل والمعلومات على قصاصات ورقية، آملاً في أن أعود إليها ذات يوم من الأيام. لكن أوراقي ورسائلي وكتبي وطوابعي نُهبت كلها عندما سقطت منطقة النبعة بأيدي القوى الانعزالية سنة 1976. أما الذاكرة فحافظت على مخزونها، وإن أخذت قدراتها تتراجع شيئاً فشيئاً.
لم تُسنح لي أوضاعي الشخصية والسياسية مجال العودة مرة أخرى إلى التسجيل، إلا أنني لم أتوقف عن الاهتمام بمتابعة أية معلومة جديدة تتعلق بالتراث الشعبي. فقط عندما استقر بي المقام في لندن أواخر العام 1980 بات بإمكاني اللجوء إلى الأوراق أحفظ فيها ما أقع عليه من تراثيات، خصوصاً الأمثال الشعبية. وأسفر هذا الاهتمام عن صدور كتاب عن الأمثال الشعبية الجريئة (الطبعة الثانية الموسّعة جاهزة للطباعة وتنتظر رحيل وباء الكورونا). ولست هنا للحديث عن ذلك الكتاب لأنه ممنوع على من هم دون الثامنة عشرة من العمر!
ومع ذلك كنت أشعر بنوع من العجز في تذكر مسألة طالما سمعت عنها في أواخر خمسينات القرن الماضي. نسوة الحي الذي نقطنه في النبعة كنّ يتحدثن عن الذهاب إلى “الباطي” مع أطفالهن المرضى، لأن المياه هناك “تشفي”! بل أذكر تماماً أن أختي الكبرى أخذت أختي الوليدة المريضة إلى هناك سعياً إلى مسحة الشفاء… لكن الصغيرة العليلة ماتت بعد أسابيع. وكانت قصة “الباطي” والاعتقادات المرتبطة بها تداهمني بين حين وآخر، من دون أن أعطيها الجهد الكافي للكشف عن جذورها الشعبية.
وذات يوم تسلمت كتاباً بعنوان “شعار سومر رمز الحياة الخالدة والحكمة والعرفان” من تأليف محمود الأمين وبشير فرنسيس (شركة دار الوراق للنشر ـ لندن). وكالعادة، دخل الكتاب في صف الانتظار ريثما يحين الوقت المناسب! وكم كانت دهشتي كبيرة ومفرحة عندما وصلت إلى الصفحة 41 التي أنقل عنها المقطع التالي:
“ومن الواضح أن الماء كان يلعب دوراً خطيراً في معتقدات سكان العراق الأقدمين من ناحية الطبابة الدينية، ولا سيما في مراسيم التعاويذ والعزائم وقراءة الأدعية وعمليات الرقى. وقد كان يُطلق عليه ماء الحياة (مي بلاطي) الذي يحيي الموتى ويطهر المرضى من الخبائث وينجيهم من الأمراض ويعتق الذين يصيبهم مس من الجنون والذين عقلت صحتهم الأرواح الخبيثة. فكان هذا الماء يصب على المرضى من نفس الإناء الذي يمثل الينبوع الفوار فينجيهم من الموت ويطرد عنهم السوء ويجدد لهم الحياة. ولما كان الإله أيا هو الذي بيده ماء الحياة هذا، لذا فقد كان في معتقدات العراقيين القدامى رب الماء المقدس ورئيس آلهة التعاويذ والعزائم…”.
وعاودتني الرغبة في معرفة المزيد. إذ ليس من قبيل الصدفة أن الإسمين متشابهان: “مي بلاطي” و”مي الباطي”. كما أن الدور الذي تقومان به هو ذاته بصورة شبه تامة. وهذا يعني أن تراثاً شعبياً من جنوب وادي الرافدين، عمره حوالي أربعة آلاف سنة كان طقساً يمارسه لبنانيون في منتصف القرن العشرين.
وشمّرت عن ساعد التحدي، ورحت أسأل المعمرين من الأقرباء والمعارف. وكذلك لجأت إلى الخدمات المجانية التي يؤمنها “غوغل”، كي “أجوجل” هذا الكم الهائل من المعلومات. فتبين لي أن “مية الباطيه” أو “الباطي” تقع في منطقة جونيه الساحلية، وفيها مزار للقديس جرجس (الخضر). وكانت مقصداً للمرضى من مختلف الطوائف المسيحية والمحمدية، لاعتقاد الناس بأن مياه النبع هناك مقدسة. ووجدت على أحد المواقع قصة هذا المزار: “هناك أسطورة عن القديس جرجس حيث تقول إنه في مدينة بيروت تغلب على التنين وقتله، وأقيمت على اسمه منطقة معروفة تاريخياً في العاصمة اللبنانية وهي خليج جونيه أي مي الباطيه التي لا تزال آثار حصان مار جرجس موجودة على الصخرة حيث كان هناك تنين بنى عشه في مدخل نبع للماء. وكان السكان المحليون يحاولون إخراج التنين من عشه لكي يستقوا من مياه النبع حيث كان المصدر الرئيسي للماء في المدينة. ولكي يخرجوا التنين كانوا يومياً يضعون له خروفاً كغذاء. وعندما نفدت الخراف كانوا يضحون بشخص مختار بالقرعة. وحدث انه كانت الضحية أميرة محلية، وحينها صدف أن القديس جرجس يمر بالحادث حيث يقوم بمقاتلة التنين متحامياً بالصليب. ثم يتغلب على التنين ويقتله محرراً الأميرة (…).
تبرز أهمية شير الباطيه انطلاقاً من مغارة مار جرجس الأثرية التي كانت معبداً لأدونيس وعشتروت…”.
لن أطيل على القارئ العزيز بتفاصيل تقنية عن معنى العادات والتقاليد والفارق بينهما. لكن من المناسب في هذا المجال القول إن التقاليد هي اعتقادات وقواعد سلوك وممارسات تمثل حضارة المجتمع المتوارثة جيلاً بعد جيل. إنها مكوّن أساسي في التراث الشعبي (الفولكلور)، ولا تخضع لعوامل التغيير إلا نادراً. وفي هذه الحالة يحافظ المجتمع على المضمون والجوهر، وإن طرأ تبديل على المظاهر الخارجية. “مية الباطي” في جونيه تواصل تقليداً كان ماء الحياة (مي بلاطي) في سومر يؤديه قبل أكثر من أربعة آلاف سنة. أما التعديل الوحيد فهو الاعتماد على مار جرجس (الخضر) وليس على الإله أيا: قديس مكان إله… صفقة شعبية مربحة!