مؤشرات الضربة الاستباقية
تكاد استقالة سعد الحريري رئيس الحكومة اللبنانية تخلو من أية أهمية سياسية لولا وجود عاملين فيها أعطياها ميزة خاصة: الأول أنها صدرت من العاصمة السعودية الرياض، والثاني أنها تضمنت هجوماً غير مسبوق على إيران و”حزب الله”. وهذان العاملان يجعلان الاستقالة بمثابة أمر عمليات واضح لتصعيد حدة المواجهة إلى مستوى إقليمي يتجاوز كل مجريات السياسة اللبنانية الداخلية.
لم تكن الإستقالة، بالنسبة إلينا، مُفاجئة إلا من حيث الزمان والمكان. فخلال الأشهر القليلة الماضية كانت الحكومة اللبنانية غير المتجانسة أصلاً تنوء تحت الضغوط الخارجية بحيث تكشفت تصدعات خطيرة في عدد من المسائل الحكومية لعل أبرزها لقاء جبران باسيل وزير خارجية لبنان مع وليد المعلم وزير خارجية الشام، والمواقف المتناقضة من العلاقة مع الحكومة الشامية، وطريقة التعامل مع النازحين الشاميين في لبنان، وتعيين سفير لبناني في دمشق، وتصريحات ثامر السبهان الوزير السعودي حول الوضع الداخلي اللبناني… وغير ذلك مما عرّى هشاشة التسوية المحلية والإقليمية التي أتت بالحريري رئيساً للحكومة وميشال عون رئيساً للجمهورية.
ومع ذلك ظل مصير الحكومة اللبنانية، وبالتالي بقاء التسوية الداخلية، رهن تطورات إقليمية ودولية لا علاقة لها بمماحكات السياسة المحلية في لبنان إلا من حيث تشابكها مع المجريات الخارجية. ولذلك نرى أن ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية في العراق والشام واليمن والسعودية و”إسرائيل” يمكن أن يوضح لنا معالم الطريق لفهم طبيعة المخططات التي تُعد لبلادنا، وكذلك الخطوات التي يجب اتخاذها لمواجهة المرحلة العصيبة القادمة.
أولاً: نجحت الحكومة العراقية في القضاء على “داعش” بكل ما يمثله هذا التنظيم من أبعاد سياسية إقليمية، وصولاً إلى الحدود مع الشام في خطوة تعزز التنسيق المقبل بين الجيشين العراقي والشامي. ثم أفشلت القيادة المركزية بفعالية محاولة الانفصال الكردية بقيادة مسعود البرزاني. وفي خضم هذا العمل الميداني المكثف، حافظت بغداد على علاقة وثيقة مع طهران وإن حرصت دائماً على تواصل إيجابي مع دول الجوار، وبالتحديد السعودية وتركيا.
ثانياً: لا يبدو في الأفق أي بوادر لحل سياسي تقبله جميع الأطراف المتورطة في حرب اليمن. وبات واضحاً أن الحل العسكري غير ممكن في المدى المنظور، ما يعني الدخول في حالة استنزاف ستكون لها تداعيات خطيرة خصوصاً على السعودية التي أوضح ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان أن اليمن بالنسبة إليهم هي مجال حيوي مؤثر على العمق السعودي الداخلي. ولعل الصاروخ الباليستي الذي استهدف مطار الملك خالد بالرياض قبل يومين يؤشر إلى تصعيد خطير جديد.
ثالثاً: الحرب في سوريا لمّا تنتهِ تماماً بعد، لكنها دخلت أطوارها الأخيرة المترافقة مع المساعي السياسية المقررة من الآستانة إلى جنيف إلى سوتشي. ومع أنه من الصعب التكهن بما سترسي عليه الأمور على الساحة الشامية خلال الأشهر المقبلة، إلا أن الشيء المؤكد في هذا الوقت بالذات هو أن خطة إسقاط الدولة في الشام منيت بفشل ذريع، وأن الخيارات الإستراتيجية لدمشق لن تتبدل مهما كانت نتائج التسوية السياسية المتوقعة.
رابعاً: على الرغم من معرفتنا بحجم الأطماع التركية المعلنة أو المضمرة تجاه أجزاء من العراق والشام، إلا أن أنقرة مجبرة الآن على انتهاج سياسة متوازنة مع موسكو وطهران. العلاقة مع الأولى تحددها القوة العسكرية الروسية في الميدان الشامي. في حين أن إيديولوجية “الإسلام السياسي” ترسم الإطار العام للمصالح المتبادلة بين إيران وتركيا خصوصاً على مستوى التعامل مع جماعة “الإخوان المسلمين” وتداعيات الملف الكردي والموقف من السعودية التي تقود حملة المقاطعة ضد قطر، حليفة تركيا.
خامساً: من “ثوابت” السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة “تحجيم النفوذ الإيراني” في المنطقة. هذا كان تعهد دونالد ترامب الانتخابي، قبل أن يتحول التعهد إلى قرار رئاسي إستراتيجي. وطهران تدرك أن إثارة موضوع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست هي مجرد ورقة ابتزاز تحمل في طياتها مخططات أكثر خطورة على مكانة إيران الإقليمية وأوضاعها الداخلية. وإذا أصرّت واشنطن على المضي قدماً في سياستها الإيرانية، فإنها تحتاج إلى شركاء أو وكلاء محليين للإنخراط في تلك المغامرة.
سادساً: يكثر الحديث هذه الأيام، وإن بشكل ضبابي، عن “مشروع أميركي لحل أزمة الشرق الأوسط”. والمقصود بذلك طبعاً إيجاد “تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين”. وهذا ما ألمح إليه بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية خلال زيارته إلى لندن قبل أيام. وبغض النظر عن الغموض المحيط بما تخطط له الإدارة الأميركية بهذا الشأن، فإن التمهيد له يتطلب إعداد الأرضية المناسبة على مستوى القوى الفلسطينية. ولعل “المصالحة” الأخيرة بين غزة ورام الله برعاية مصرية تدخل في هذا السياق.
سابعاً: تمكنت “إسرائيل” أخيراً من نسج شبكة تعاون وثيقة للغاية مع عدد من الدول العربية بحيث بات المراقبون يتحدثون عن “محور إسرائيلي ـ أميركي ـ عربي” في مواجهة “محور المقاومة”. ويتمظهر هذا التعاون على المستوى العسكري في سلسلة من الغارات الإسرائيلية على مواقع متفرقة في الشام، إضافة إلى المساندة الميدانية لجماعات مسلحة في الجنوب الشامي. ولا شك في أن هذا المحور الذي لم يعلن عنه رسمياً بعد يضع في سلم أولوياته “حزب الله” نظراً إلى الدور الحيوي الذي يلعبه في أكثر من ساحة.
في خضم تعقيدات هذه الصورة الشمولية، تبقى استقالة الحريري تفصيلاً جزئياً تكمن أهميته فقط في أنه أطلق صافرة بداية المواجهة التي يُراد منها أن يكون أحد جوانبها أمنياً وعسكرياً.
إن مهمة إسقاط ما أرادت استقالة الحريري تفجيره على الساحة اللبنانية تحديداً تستدعي من جميع القوى المعنية، وعلى وجه السرعة: أولاً رصّ الصفوف… وثانياً الحسم الداخلي الجذري!