لبنان وتعثّر مشروع الدولة المدنية- حليم رزوق
ثمة خطّان في مقاربة الوضع السياسي الاجتماعي الاقتصادي في أي بلد كلبنان يحتضن مجتمعه هذا الكم من الطوائف والمذاهب. خط اول ينزع إلى مخاطبة كل طائفة أو مذهب في خصوصيتهما وانطلاقاً من وجودهما ككيانات قائمة بذاتها ضمن المجتمع. ويظهر هذا الخطاب في أجلى صوره خلال استحقاق كالاستحقاق الانتخابي الذي من مستلزماته، أو من ضمن آلياته، شحذ العواطف والغرائز بغية دفع جماهير الطائفة أو المذهب إلى إعطاء أقصى ما تستطيع من دعم ومن أصوات للّائحة المدعومة من تيار ما.
وهناك خط آخر يميل إلى مخاطبة المواطنين كافة في المجتمع على أساس مواطنيتهم وانطلاقاً من مصلحتهم التي تتواءم مع مصلحة المجتمع. وهذا الخطاب يتّسم بالمنطق والعقلانية ويتوجّه بالتالي إلى مخاطبة العقل والوجدان الجماعي، دونما اي لعب على العواطف والغرائز.
وفي إطار هذا الافتراق بين هذين الخطين، نعاين فريقاً من مُنظّري الخط الأول يدّعي الإيمان، نظرياً، بضرورة الوصول إلى الدولة المدنية أو العلمانية أو دولة المواطنة التي تصب عملياً في مسار نضال الخط الثاني، إلّا انه يعتبر أن الظروف غير مؤاتية أو غير مهيئة لمثل هذا الخيار راهناً، فيعود إلى تبرير السير في الخط الأول بسبب هذه الظروف التي يستحيل معها التغيير في نظره.
أن الخطورة في أصحاب هذا المنطق الالتفافي التبريري، والذي هو أخطر بما لا يقاس من اركان الخط الاول، هو أن هؤلاء واضحين في تبنّيهم للمشروع الطائفي المذهبي، ويعبرون عن ذلك دون مواربة. بينما يعمد الآخرون إلى وضع أنفسهم عمليا في خدمة هذا المشروع، مع مسايرة لفظية مخادعة لأتباع الخط الثاني القائل بدولة المواطنة.
نحن، كمحبذين للخط الثاني، بل كمدافعين شرسين عنه كخيار واحد للـ “مجتمع اللبناني”، على تعدد طوائفه ومذاهبه، ندرك تماما أن دون تحقيق هذا الخيار في المدى المنظور عقبات كأداء، وأن النضال في هذا السياق نضال عسير وطويل، الا ان إيماننا النابع من تبصر عقلاني وجداني بأن مصلحة المجتمع تكمن في تبني هذا الخيار والنضال من أجله يحتم علينا أن نستمر في هذا المسار رغم جميع العقبات والصعاب.
وفي هذا السياق يبرز تساؤل في وجه اتباع الخط الثاني:
لقد مرت عقود مذ بدأتم نضالكم في سبيل تحقيق مشروع الدولة المدنية الموعودة، وليس انكم لم تنجحوا في تحقيقها، بل انكم فشلتم حتى الآن في تحقيق خطوات جدية مما يسجل عليكم ويثبت استحالة نجاح الخط الذي تتبنون.
الرد على ما سبق ذكره من تعثر، ولا اقول فشل لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقا، لمشروع الدولة المدنية يستدعي اولا الاعتراف بكل جرأة أن الكلام عن هذا التعثر صحيح وحقيقي؛ لكن هذا يستدعي منا النظر في أسباب هذا التعثر وهل هي لعلة كامنة في صلب هذا المشروع بحد ذاته ام لقصور في الرؤية عند حاملي لواء هذا المشروع ام لأخطاء صاحبت محاولة تحقيقه.
نعود إلى المشروع، هل فشل ام تعثر؟ إن القول بفشل المشروع هو إقرار مسبق من جميع المؤمنين بصوابيته وأحقيته أن المشروع الآخر انتصر؛ هذا الإقرار لا يعني فقط أن مشروعا انهزم ومشروعا مضادا له انتصر، بقدر ما هو إقرار بتأبيد للنظام الطائفي المذهبي في لبنان، الأمر الذي يتنافى مع العقل والمنطق السليم لأنه يتعارض مع الحياة نفسها؛ فالحياة التي تتطور في جميع أنحاء العالم في العلوم والتكنولوجيا والمجالات كافة لا يمكن أن تتوقف عندنا في بلادنا في مكان يصعب مؤامته مع مجمل حركة التقدم في العالم. إذا، من هنا نبدأ : المشروع تعثر، فما هي أسباب تعثره؟
نترك هذا لمبحث آخر نتقصى فيه اسباب وعوامل التعثر كما محاولة تكوين رؤية لكيفية الخروج من هذا النفق الذي يتمثل في انسداد الأفق امام تغيير جدي في بنية هذا النظام طالما هو محكوم بالنظرة إليه كساحة لتنازع الطوائف والمذاهب أقصى الطموح عندها أن تتحول إلى تجمع يسمى، تجاوزاً، دولة من نوع خاص يبقى الجميع على قناعاتهم المختلفة، وحتى المتعارضة ، ويقيمون بينهم ميثاقا يعترف بخصوصياتهم التي يقدمونها، إذا اضطروا، على مصلحة المجتمع ككل.