كورونا و”العالم الثالث الجديد”- مصطفى زين
منذ انقاذها من نفسها ومن حروبها المتمادية التي توجتها الحرب العالمية الثانية (مشروع مارشال)، وأوروبا تتطلع إلى الولايات المتحدة كمنقذ، وتحاول اللحاق بها على كل المستويات السياسية والتقنية والفكرية. فمركز الإمبراطوية الجديدة يجذب إليه معظم المبدعين والفنانين وأصحاب الرأي. ولأنها لا تستطيع مجاراتها على المستوى العسكري وتتطلع إلى المحافظة على مستعمراتها السابقة، نجدها تنسق معها في كل الحروب، بدءاً من حرب فييتنام وليس انتهاء بالحرب على أفغانستان والعراق والسباق على تدمير سورية وليبيا (بالإعتماد على إسرائيل وعملائها العرب كرأس حربة). وكل ذلك باسم القيم الإنسانية ونشرها بالقوة.
نظّر لهذا الإلتحاق بالعصر الأميركي كتّاب وفلاسفة أوروبيون أخذتهم الحماسة لحروب واشنطن إلى المزاودة عليها في العداء لشعوب العالم الثالث، من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط وإفريقيا (الفيلسوف الفرنسي هنري بيرنار ليفي مثالاً). وبدا الأمر كأن الإستعمار القديم يجدد نفسه بتكنولوجيا أميركية غزت الإعلام والميديا في صنوفها، إلا ما ندر. وتحولت القارة القديمة إلى “عالم ثالث جديد”، بتعبير الفيلسوف الفرنسي اليساري ميشال أونفري.
كم بدا العالم الغربي ضعيفاً وممزقاً أمام فيروس قديم متجدد. فالأنظمة الصحية المتقدمة لم تستطع التصدي لهذا الخطر الذي يهدد البشرية، بعدما خضعت هذه الأنظمة لمنطق السوق والرأسمالية المتوحشة القادمة من أميركا. فبريطانيا التي كانت تعتبر من أكثر الدول تقدماً في الرعاية الصحية واكتشاف الأدوية، لم تستطع تلبية حاجة المصابين بالوباء إلى الإستشفاء، فضلاً عن اكتشافها النقص الكبير في الأدوات الطبية وفي عدد الأطباء والممرضين، والنقص الحاد في أجهزة التنفس.
أهملت الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ عشرين سنة، على الأقل، القطاع الصحي وأغلقت عدداً من المستشفيات العريقة وخصخصت أخرى. وذهبت حكومة تيريزا ماي وبعدها حكومة بوريس جونسون إلى عرض هذا القطاع للبيع إلى أميركا. قيمة الإنسان لم تعد أولوية مقابل الإغراء المالي. وبدا هذا الأمر واضحاً في تصريحات القادة الأميركيين والبريطانيين الذين توقعوا موت “أحباء” متقدمين في العمر. لكن ما غاب عن بال المنظرين لهذا الأمر أن القارة العجوز لا تتحمل عبء موت هؤلاء لأن نسبة الشباب لا تتعدى العشرين في المئة، خصوصاً في بريطانيا التي مددَت سن التقاعد كي تعوض اليد العاملة خوفاً من اضطرارها إلى الإعتماد على المهاجرين، بعدما خرجت من الإتحاد الأوروبي وغادرها معظم العاملين من أوروبا الشرقية ما جعل المستشفيات تعاني من نقص حاد في قطاع التمريض والطبابة. وهذا ما يبدو جلياً في تراجع الخدمات الصحية بخاصة في هذا الظرف. وقد حذر المسؤولون عن القطاع الصحي في إنكلترا الأطباء من التصريح إلى وسائل الإعلام عن هذا النقص في التجهيزات تحت طائلة المسؤولية، خوفاً من افتضاح أمرهم أمام الرأي العام الذي بدأ يتساءل عن جدوى النظام المعمول به ويطالب بتغييره في أقرب فرصة. والمطالبة لن تقتصر على هذا الأمر، بل ستتعداه إلى الأنظمة السياسية والاقتصادية. فالكارثة ستوقظ الحس الإنساني لدى الشعوب التي خدرها الإعلام المنحاز كلياً إلى الشركات العابرة للقارات.
يختصر ميشال أونفراي عالم الاجتماع الفرنسي مستشار الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، الوضع بقوله: “ليس ما هو أكثر إلحاحاً من السيطرة على أمواج تسونامي الصحية والاقتصادية التي تضرب العالم. ولكن لا شيء يضمن نجاحنا في ذلك… وسنواجه سنوات قادمة مظلمة”. وهو يتوقع تغييرات كبرى. فعلى مدى آلاف السنين الماضية أدَى كل وباء كبير إلى “تغييرات جوهرية داخل أنظمة الأمم السياسية وداخل الثقافات التي تبنى عليها الأنظمة”. ويستشهد بوباء الطاعون الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر “وأودى بثلث سكانها”. ولا ننسى في استعادة سريعة لتاريخ تلك الحقبة، أن كارثة الطاعون وقعت بعد انتهاء الحروب الصليبية (1096-1291 ) وانكفاء الصليبيين وعودتهم إلى بلدانهم ليشعلوا حروباً أهلية استمرت نحو مئة عام (1337- 1460)، وأدت إلى تغييرات جوهرية في حدود الدول وتداعي سلطة الكنيسة والقضاء على نفوذ البابا في روما. كما أن هذه الكارثة أفرزت نوعاً جديداً من “الطاعون” تمثل بالاستعمار.
فهل سيؤدي وباء كورونا إلى انحسار نفوذ الولايات المتحدة في أوروبا؟ وهل ستقلص واشنطن عدد قواعدها العسكرية المنتشرة في أرجاء العالم (ما يناهز 800 قاعدة في 130 دولة)؟ ثم كيف سينعكس ذلك على الوضع الداخلي؟ وكيف سيكون رد فعل شركات السلاح العملاقة التي تنصّب، مع شركات النفط واللوبي الصهيوني، المسؤولين في البيت الأبيض والكونغرس؟ في معنى آخر، هل سينشأ نظام جديد في القارة، وما شكله ومقدار تأثيره في محيطه المباشر وخارج هذا المحيط؟
مما لا شك فيه أن هذا التغيير في أميركا سيتبعه تغيرات في أنحاء العالم خصوصاً في الدول التابعة لسياسات واشنطن، وفي مقدمها دول الخليج التي تعتمد أنظمتها على حماية البيت الأبيض، على ما هو معروف، وعلى ما أكد دونالد ترامب. وها هي القوات الأميركية بدأت تنسحب من العراق وتتبعها قوات “التحالف الدولي”، تاركة أتباعها أمام خيارين أحلاهما مر: مواجهة الإضطرابات المحلية أو التوجه شرقاً نحو الصين وروسيا.
في أوروبا بدأت أصوات المناهضين لاتحادها ترتفع مطالبة بمغادرته، خصوصاً في إيطاليا وإسبانيا. فقد فشلت بروكسل في مواجهة خطر الوباء، والدعم الذي قدمته يكاد لا يذكر. وشكل خروج بريطانيا من الإتحاد قوة دافعة لهذه الدول لتحذو حذوها. وإن لم يسرع المسؤولون في المفوضية والبرلمان إلى تدارك الأمر بتشريعات جديدة تأخذ الوضع المستجد في الإعتبار، فعلى هذا التجمع الإقليمي السلام.
ميشال أونفراي حذر من عدم كفاءة القادة الأوروبيين وضعفهم في مواجهة الوباء، وقال إن أوروبا أصبحت “العالم الثالث الجيد”، وتوقع انهيار “الحضارة اليهودية – المسيحية”. وفي هذا المصطلح تزوير للتاريخ كرسته الكنيسة والصهيونية، في تجاهل تام لتأثير الحضارتين اليونانية والإسلامية في النسيج الثقافي الأوروبي على كل المستويات، وإنكار لدورهما في نهضة القارة وتقدمها في مختلف المجالات. وأضاف الفيلسوف الفرنسي أن “الشرق عاش لأكثر من نصف قرن في ظل وهم الماركسية – اللينينية التي تحولت إمبراطوريتها إلى نمر من ورق، وها هو وباء كورونا يسقط وهم الإتحاد الأوروبي”. ومهما كان في هذا الكلام من مبالغة إلا أنه يستمد مبالغته من الواقع، فالاتحاد لم يستطع تأمين الكمامات ولا اللوازم الطبية للمستشفيات.
لكن السؤال الأساسي هو: هل ستقف نظم الليبيرالية المتوحشة متفرجة أمام سقوطها؟ أغلب الظن أنها ستدافع عن نفسها مستخدمة قواها المالية. وقد بدأت الولايات المتحدة اعتماد هذا الهجوم، قبل كورونا، وأطلقت عليه إسم “التغيير بالحرب الناعمة”. فلجأت إدارة ترامب إلى اعتماد العقوبات الإقتصادية على كل دولة لا تجاريها في سياساتها، بدءاً من تجديدها محاصرة كوبا وفنزويلا، وليس انتهاء بروسيا والصين وإيران. حتى لبنان، هذه الدولة الضعيفة المعتمدة على المساعدات الخارجية، لم يسلم من العقوبات اتي تطاول أفراداً ومؤسسات وجماعات دينية وعرقية.
واشنطن لن تتخلى عن دورها في زعامة العالم بسهولة. وقد حذرت مجلة “فورين أفيرز” من أن الصين “تناور لتقود العالم، وتعمل على ملء الفراغ” الذي سيخلفه انحسار نفوذ الغرب الذي بدا متخلفاً في مواجهة الوباء بينما ظهرت الصين أكثر إنسانية وفاعلية في التصدي له.