قيادة الطائرة بعقلية الحنطور!
تزداد قناعتي يوماً بعد يوم بأن رفقائي القوميين الاجتماعيين، بغالبيتهم العظمى، يجهلون القسم الأكبر من تاريخنا الحزبي القريب منه والبعيد. والأخطر من الجهل أنهم لا يسعون إلى سد هذه الثغرة المعرفية بالاطلاع على مرويات الرفقاء المخضرمين ومذكراتهم. كما وأن المؤسسات الحزبية المتعاقبة قصّرت كثيراً في هذا السبيل. وترتفع درجة الخطورة إلى حد الانفجار عندما يصرّ بعضهم على تقييم ذلك التاريخ، وإصدار الأحكام المبرمة من دون السماح لأحد بالاستئناف أو التمييز!
أذكر في مطلع سبعينات القرن الماضي أننا واجهنا “تياراً” بين الرفقاء في وحداتنا الحزبية، خصوصاً في الثانويات والجامعات، أصيب أتباعه بدوخة إيديولوجية وهوس فكري وتعلق طفولي بكل ما يمت بعلاقات القربى من الماركسية أو اللينينية أو التروتسكية أو حتى الماوية… وصولاً إلى كل ما فرّخته المدارس الاشتراكية والعروبية في طول العالم العربي وعرضه بعد هزيمة حزيران 1967 التي أسموها كذباً ونفاقاً “النكسة”.
كانت حواراتنا مع هؤلاء “الرفقاء” متعبة ومملة، لكن بأخلاقية عالية كم نفتقدها اليوم مع انتشار “ثقافة الأصابع المتهورة”. المنطق الذي انطلق منه “رفقاؤنا” يقوم على مقولة أن فكر سعاده القومي الاجتماعي بات بحاجة إلى “تطوير” كي يتماشى مع الإيديولوجيات اليسارية السائدة في العالم آنذاك. وهذا يعني التعديل والتبديل والإلغاء في جوانب من العقيدة القومية الاجتماعية. ومشكلتنا الأولى مع أولئك “الشباب” أنهم كانوا مجرد واجهة يتخفى خلفها قياديون إستسهلوا ركوب موجة اليسار، في حين كان من المفترض إخضاعهم للمحاسبة جراء ممارسات سابقة كلفت الحزب والقوميين الاجتماعيين الكثير الكثير.
المهم أننا كنا نرد على التيار المتمركس بالقول إننا لسنا ضد أي تطوير بالمطلق. لكن مثل هذه الخطوة المصيرية يجب أن تتم وفق مقاييس وشروط دقيقة جداً. . وكنا نشدد على هذه النقطة التي لا مفر منها لأن المنشور من كتابات سعاده في ذلك الزمن كان لا يتجاوز الخمسين في المائة تقريباً من مجمل تراثه الفكري في الوطن وفي المغترب القسري. فماذا لو أن ما نريد “تطويره” موجود في الكتابات غير المنشورة في الوطن، والتي كان الرفيقان بدر الحاج وسليم مجاعص يعملان على جمعها وتحقيقها تمهيداً لنشرها في “الآثار الكاملة”؟ (صدر الجزء الأول سنة 1975).
فلنترك أولئك “الرفقاء” في مناقشاتهم وتنظيراتهم، ولنقفز خمسين سنة كي نحط رحالنا في العام 2021، فما الذي نكتشفه؟
الجانب الإيجابي المؤكد هو أن الفكر القومي الاجتماعي فاز بجدارة في صراع العقائد، مخلفاً وراءه في ساحات المنازلة التاريخية كل الاتجاهات المنافسة من شيوعية إلى اشتراكية إلى عروبية وهمية، حتى وإن كانت أحزابها قد تولت الحكم لعشرات السنين في عدد من الدول! كما ترافق هذا الفوز مع زيادة تألق سعاده المعلم والزعيم والقائد في زمن عاقر عزّ فيه وجود الرجال الرجال. ولن نُبدي مشاعر الشماتة إزاء ما حلّ بتلك المجموعة من “الرفقاء”، فالتاريخ أصدر بحقهم حكمه العادل.
أما الجانب السلبي فيتمثل بأن الحزب السوري القومي الاجتماعي، المفترض أن يكون دولة الأمة السورية المصغرة، والحامل مشعل النهضة القومية الاجتماعية… هذا الحزب (بل الأحزاب) يمر في أزمة مصيرية حاسمة. ومرّة أخرى نرى أن بعض القوميين يتهربون من الاعتراف بالمسببات الحقيقية للأزمة، فيلجأون إلى فتح ملفات جانبية وإثارة مسائل ثانوية لعلها تخفي مسؤوليتهم هم بالذات في ما بلغه حال الحزب من تدهور مفزع.
لا شك في أننا، كرفقاء أولاً وكمثقفين ثانياً، مطالبون بقراءة الفكر القومي الاجتماعي على ضوء التطورات والنزعات الراهنة. سعاده نفسه كان يُقدم على مثل هذه القراءة في مراحل حياته كلها. ولطالما شجع معاونيه، خصوصاً جيل الشباب منهم أمثال فخري معلوف وفؤاد سليمان ويوسف الخال وهشام شرابي ولبيب زويا ويوسف سلامة وغيرهم، على التفكير المستقل النابع من شخصيتنا القومية، واعتماداً على المبادئ التي هي قواعد لانطلاق الفكر. لقد آمن بأهمية بناء الإنسان الجديد القادر على التحليق في آفاق الإبداع، ولذلك كان يحث الرفقاء على أخذ المبادرة في كل الأمور. قال له الأمين نواف حردان خلال انتخابات سنة 1947: “ألا يتكرم حضرة الزعيم بكتابة هذا البيان أو بإملائه علي؟ فأجاب بلهجة التشجيع: “أتريدون أن يقوم الزعيم وحده بالأمور الكبيرة والصغيرة يا رفيق نواف؟ أجلس في الغرفة الثانية واكتب البيان بنفسك ثم أطلعني عليه”. (نواف حردان، “على دروب النهضة”. صفحة 189)
من واجب القوميين الاجتماعيين أن يقرأوا سعاده في سياقه الزمني السياسي، وأن يقرأوه كذلك في راهنيته المعاصرة بهدف إجراء بحوث نقدية تضع الفكر القومي الاجتماعي على محك الأفكار الحديثة. وإذا كان سعاده هو البوصلة لنا جميعاً، فهو أيضاً القاعدة التي تقاس النتائج بها. وعندما ينخرط الرفقاء في هذه المهمة الأساسية، فإن نتاجهم الفكري الأصيل سيكون مدماكاً جديداً في عمارة العقيدة القومية الاجتماعية المتجددة دائماً. فالأمة تحتاج هذه القراءة الهادفة، وسعاده يتوقعها منا. لكن هناك مواصفات وشروطاً يجب توافرها في من يتنكب مغامرة القراءة الفكرية. وكما أننا نرتكب جريمة إذا ما سلمنا قيادة الطائرة إلى صاحب عربة حنطور، أو إلى شخص لا يحمل سوى رخصة قيادة سيارة عمومية في أزقة بيروت… فالمقياس نفسه ينطبق على من يرغب الخوض في سعاده ومنهجه الفكري.
هناك ثلاثة شروط لا بد من توافرها عند الساعين إلى قراءة سعاده وفق معطيات الزمن الراهن:
-
الأول: استيعاب شامل مركز للفكر القومي الاجتماعي، ومعرفة دقيقة بتاريخ سعاده وتاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي من مصادره الأصلية.
-
الثاني: فهمٌ عميق للتيارات الفكرية المعاصرة، ودراية بمجريات السياسات العالمية سواء ما تعلق منها بالأمة السورية أو ما يؤثر فيها بطريقة غير مباشرة.
-
الثالث، وهو الأهم الذي إذا غاب فلا يكون هناك معنى للشرطين الأولين. ونقصد بذلك أن يتمتع هؤلاء بأعلى سوية من المناقب القومية الاجتماعية. إن فقدان الحس المناقبي لأي سبب من الأسباب يجرّد صاحبه من المصداقية والموضوعية والاستقلالية، وهي صفات تسبغ على ما يتم التوصل إليه قيمة فكرية مقبولة. فإذا أصيبت مناقب “المفكر” بلوثة الأنانية الفردية أو الفساد الإداري، فإن الشبهات المحيطة بحاملها ستنسحب على الطروحات الفكرية التي قد يعلن عنها حتى ولو كانت صحيحة على الصعيد النظري.
وفي ختام كلامنا هذا، نقول إن قراءة سعاده، وإعادة قراءته مرّة ومرتين وأكثر، يجب أن لا تكون ترفاً فكرياً يتسلى به من يريد أن يملأ فراغ حياته الغارقة في الكسل والملل. سعاده قصد من منظومته الفكرية أن يبني الإنسان الجديد كخطوة أساسية في عملية بناء النهضة القومية الشاملة… وكل ما دون هذه المهمة باطل. فالمفكر الإيديولوجي الفاسد لن ينتج إلا الفساد. ومن باع روحه للشيطان لا يُثمر سوى الشر. وشتان ما بين نهضة العز ونهضة الذل!!