“قرضة ووفا”*

image_pdfimage_print

عدد من الأخبار مرّ أمامي في الأيام القليلة الماضية، فتح خزان الذاكرة بكل ما فيها من آلام وعنفوان صامت. فقد نشر الرفيق نبيل المقدم رسالة من الرفيق صباح قبرصي عن معاونة القوميين بعضهم لبعض في الشدائد والمحن. وكان الرفيق قبرصي قد أرسل لي تلك الرسالة منذ سنوات. الخبر الثاني نشره الرفيق فايز فارس عن زيارته للأمين عجاج في مطعم البيت. والثالث، نشره رفيق من الشام عن “مصبغة سوريا” التي فتحها الأهل في شارع جاندارك، في الأربعينات من القرن الماضي، والتي تقمصت “مطعم البيت” في مطلع الخمسينات.

رسالة الرفيق قبرصي كانت موضع حديث مع أخي الأكبر هانيبال، (هاني) تذكرنا فيها ما بعد انقلاب سنة 1961. كانت مرحلة مليئة بالصعوبات خاصة وأننا خسرنا معظم زبائن المطعم خوفا من ملاحقات المكتب الثاني، ناهيك عن زناخة موظفي بلدية بيروت الذين “حطوا بِكْعَار” المطعم بأمر من المكتب الثاني، فكل يوم “مخالفة” وكل يوم عقوبة مالية. سألت هاني ما إذا كان يتذكر الشخص الذي زارنا بعيد خروج الأمين عجاج من السجن في نيسان من سنة 1962. أجاب بالنفي. قلت له “أنا لا أنسى دعني أخبرك هذه القصة.”

كنا طلابا داخليين في مدرسة المنصف الأهلية، أختي هدى وهانيبال وأنا. وأذكر أننا في ثاني يوم الانقلاب، بعد اعتقال الوالد وقبل أن نعود من عطلة الميلاد ورأس السنة إلى المنصف، جمعتنا الوالدة، وقالت لنا بلهجة حازمة، “مين ما سألكم، شو ما سألكم، ما منعرف. فهمتوا؟” فهمنا.

مرت الأيام ببلادة وبطء، زرنا خلالها الوالد في السجن مرة واحدة. ومما أذكره عن تلك الزيارة أمرين: الرائحة النتنة وأحد الحراس الذي “لطّش” أختي هدى، وكانت في عزّ صباها وجمالها، فسمع من الرفيقة سورية ما يلزم من “قاموس الآداب العالية” الذي ورثته عن جدي، بو عساف إسبر كرم، وأضافت إليه من عندها الكثير.

في منتصف شهر آذار، يستدعي مدير المدرسة أختي هدى ويقول لها إن والدتي اتصلت وعلينا الذهاب إلى بيروت في نهاية الأسبوع. لم يعط سببا فكانت تلك الزيارة موضع تكهن بيننا. أما أنا فكنت متأكدا أن والدي خرج من السجن.

وصلنا المنزل في شارع الصيداني في رأس بيروت، وكنا نقيم في الطابق الخامس. أذكر أنى صعدت الدرج – ثمانين درجة – قفزا. فتحت الوالدة الباب، فتجاوزتها. “أين أبي؟” سألتها حين لم أره. “أبوك لم يزل في السجن”، أجابت باستغراب. “ليش جبتونا عالبيت لكان؟” سألتها محاولا حبس الدموع في عيني. “تسلملي.” غمرتني، وقد فهمت ما حدث. “أختك آمال قد ولدت بنتا جميلة جدا.” واقتادتني بيدي إلى الغرفة الثانية حيث كانت آمال وإلى جانبها طفلتها مَكْدَا.

أعترف، بعد كل هذه السنين، أن فرحتي بولادة مَكْدَا نغّصها حزني بسبب بقاء أبي من السجن.

بعد شهر، جاء أمر ثان بالنزول إلى بيروت. هذه المرة كنا على دراية أن الوالد قد خرج من السجن. فقد نشرت الصحف الخبر. رؤية الوالد كانت صدمة. أين الشعر المطعّج؟ أين النظرة الثاقبة؟ كان ضعيفا، حليق الرأس، مريضا. عرفت بعد ذلك بسنوات حجم العذاب الذي تعرّض له في السجن بسبب قصائده الساخرة من السجانين، وأشهرها تلك التي لليوم يرددها القوميون، ومطلعها، “فيقوا يا رفاقي فيقوا..”

المهم. رن جرس البيت. فتحت الباب فظهر أمامي، وأنا الطفل ذو ثمانية سنوات، عملاق يحمل باقة زهر. “هون بيت عجاج المهتار؟” سأل بلهجة لم أسمعها من قبل. “نعم”. أجبته بخوف. “تفضل.” سلمني الباقة ونزل الدرج مسرعا. أغلقت الباب، فإذ بأختي هدى آتية لترَ من القادم.

“شو هاو”.

“زهور”. ”

“بعرف زهور، مين عطاك هني؟”

“ما بعرف، واحد زلمي.”

“ولا حمار، كيف بتاخد شي من حدا ما بتعرفوا.” انتزعت الباقة مني وركضت إلى الدرج ولكن الرجل كان قد اختفى.

جاءت الوالدة إثر الهرج الذي حصل، فرأت باقة الزهور. أخذتها من هدى، فإذ في وسطها مغلف. فتحته. كان بداخله مائة ليرة لبنانية!

مائة ليرة! في تلك الأيام، بالنسبة لنا، كانت تفك حبل المشنقة. فقد كان زبائن مطعمنا السابقين، وأكثرهم من طلاب الجامعة الأميركية، إذ يقتربون من المطعم، يقطعون الطريق إلى الرصيف المقابل تفاديا لمضايقات المكتب الثاني. كنا في ضائقة كبيرة، ولا شك ان تلك المائة ليرة قد حلّت أكثر من مشكل.

لا أدري عدد المرات التي رويت فيها تلك الحادثة لرفقاء وأصدقاء، ولعل بعضهم قد زهق من كثرة تكرارها. وكان السبب في روايتها مزدوجا، الأول هو نوع من الشكر لمجهول وضع نفسه في خطر لمساعدة عائلة قومية في وقت الضيق، والثاني، لعل أحدا يعرف ذلك المجهول، فيعطيني فرصة لشكره، ولو بعد سنين.

سنة 2004 قررنا في مديرية أوتوا، إقامة احتفال كبير بمناسبة مئوية سعادة. كان قرارا جريئا بناء على توصية من القوميين في ما كنا نسميه “يوم عمل” نعقده في كل ثامن من تموز، نقيّم فيه إنجازات السنة السابقة ونضع أهداف للسنة الآتية. قررنا أن نقيم احتفالية من ثلاثة أيام، محاضرتين بالعربية والإنجليزية يليهما حفل عشاء كبير وتكريم للقدامى من القوميين ومن رحل منهم. وهكذا كان. وكان المحاضران، الراحل الكبير الرفيق أنطوان بطرس، والدكتور عادل ضاهر.

لا تنس عزيزي القارئ أن 2004 لا تبعد سوى ثلاث سنوات عن أحداث أيلول 2001، وسنة واحدة عن غزو العراق. وأن الوضع لأي ناطق بالعربية في أميركا الشمالية لا يحسد عليه. أعلنا عن الاحتفال قبل موعده بوقت طويل، ودعينا القوميين من مختلف أنحاء القارة الشمالية، فلبوا النداء. أذكر أن أكثر من أربعين رفيقا ورفيقة وفدوا إلى أوتوا من مختلف المناطق بما فيها وفد كبير من كالفورنيا، في طليعته الراحلين العزيزين الشاعر خالد زهر الذي القى قصيدة في اللية الأخيرة، والرفيق رودلف تكلي، والاثنين فجعنا بهما قبل الأوان بكثير.

بعض الضيوف نزل في فنادق، وبعض آخر في بيوت قوميين أصدقاء. أما نحن كهيئة مسؤولة، فقد أقمنا حفلي عشاء للضيوف في أحد المطاعم. في العشاء الأول، وفيما أدور على الطاولات مرحبا بالضيوف ومتعرفا عليهم، توقفت عند طاولة “الأستاذ” أنطوان بطرس. والأستاذ أنطوان كان مديري في دار الصياد لمدة سنة، ولكن تلك قصة أخرى. كان أنطوان، وإلى جانبه الرفيق غسان الياس من كاليفورنيا، يستمعان إلى كهل لا أعرفه. جلست بالقرب من أنطوان مستمعا. كان الكهل يتحدث بلهجة نسميها في بيروت “غلاوي” مع لفظ الغين جيما مصرية. قال متابعا قصة دخلت في منتصفها: “أني كنت أزعر، ضريب مواس، افرض خوة عالمحلات بالمصيطبة. تعرفت عواحد إسمو لبيب ناصيف، آم (قام) عملني أومي (قومي)، وصرت بني آدمين. هلأ لما صار الإنئلاب، (الانقلاب) وفاتو الأوميي (القوميين) عالحبوسات، رجعنا نبرم عالمحلات بس مش لنفرض خويي، صرنا نجمع مصاري لعائلات الأوميين.”

قاطعته بحذر. “تصديقا لكلامك، نحنا صار معنا شي من هذا” ورويت قصتي الشهيرة.

“وين كنتوا ساكنين؟”

“في شارع الصيداني، أنا ابن الأمين عجاج المهتار”.

“هيدا أني.” قالها ببساطة.

لا أستطيع وصف المشهد التالي بسهولة. ما أذكره أننا وقفنا، وتعانقنا، وكان لم يزل ماردا مع انحناءة بسيطة في ظهره، وبكيت. أذكر ان الرفيق غسان الياس ضرب بيده على الطاولة، “رفقاء، سَمَع إذا بتريدوا، سَمَع.” وروى ما حدث للحضور. كان المارد الذي دق بابنا سنة 1962، لنلتقي بعد ثمانية وثلاثين سنة، هو الرفيق طوني نصر، (البسكنتاوي).

صفن أخي هاني لمدة، ثم كمن استفاق من حلم قال لي، وأنا عندي قصة لم أروها لأحد من قبل. أنت تعرف أنني دخلت إلى مدرسة “الآي سي” سنة 1967. قلت نعم أذكر ولكني لا أعرف السنة. قال، بلى كانت سنة 1967، ولكن هل فكرت يوما كيف تمكنا من دفع قسط المدرسة، وهي من أغلى مدارس بيروت؟ أجبته بالنفي فيما بدأت ملامح فضول تتكون في ذهني، فسنة 1967 كان الطفر لم يزل ضيفا ثقيلا لا يرحل عن بيتنا.

قال، كنت أتحدث مع الوالد في المطعم بعد ظهر يوم من صيف تلك السنة. كان لدي رغبة كبيرة في دخول “آي سي” ولكن من أين لنا ذلك وقُسطها غال جدا. كانت علاماتي ممتازة، فحصلت على منحة بنصف المبلغ، ولكن من أين باقي القسط؟ من أين ثمن الكتب والقرطاسية؟ استمع الوالد لي وأنا أشكو همي صامتا، وحين انتهيت اكتفى بالقول. “بتنحل”.

ما أن أنهينا كلامنا حتى دخل شخصان لا أعرفهما. وقفت معتقدا أنهما من الزبائن، ولكن أحدهما، حين رأى والدي، اتجه إليه، وبعد كلمات قليلة منه، وقف الوالد مذهولا فرحا وعانقه طويلا. عرفني الوالد على الشخص، ولكن مع الأسف، فإن اسمه لا يحضرني الآن. وحين سأل الرجل عني، وعن دراستي أخبره الوالد بفخر، أنني متفوق، وأني حصلت على نصف منحة من الآي سي.

في اليوم الثاني، وفيما أنا في المطعم أساعد الأهل، دخل الشخص نفسه، وسلّم والدي مغلفا قائلا له، “هذا لقسط المحروس.” تحيا سوريا.

“أكثر ما يزعجني،” قال أخي، “أن أبي أخبرني باسم هذا الشخص ولكني لا أتذكره. كل ما أذكره أنه من عكّار وأنه جاء في زيارة إلى الوطن من المكسيك. والآن بعد كل هذا العمر، أشعر أني مدين له بما أنا عليه. فلولا تلك المساعدة لما دخلت الآي سي. ولولا ذلك، لما دخلت الجامعة الأميركية بمنحة كاملة، ثم بمنحة للماجستير فالدكتواره. هل تستطيع مساعدتي لأعرف من هو؟”

جاء دوري لأن أجلس ساهما. “لا أعدك، ولكن سوف أحاول.”

عدت من زيارة أخي في مزرعته وفكرت بالموضوع. من هو القومي من عكار، صديق الوالد، الذي جاء لبنان من المكسيك سنة 1967 بعد غياب طويل، وقدم لنا هذه المساعدة؟ لم يطل بي التفكير كثيرا، فالشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتي في كشف هذا السر هو الأمين الجزيل الاحترام، وحافظ تاريخ الحزب، لبيب ناصيف. اتصلت بالأمين لبيب وأخبرته بالقصة. فكر مليا ثم قال، “أعطني كم يوم. أعتقد أني أعرف ولكني أريد أن أتأكد.”

بعد أيام قليلة، يتصل بي الأمين لبيب قائلا. “توفيق الأشقر”.

“عفوا”؟

“توفيق الأشقر، الشخص الذي سألتني عنه هو الأمين الراحل توفيق الأشقر.” لقد أرسلت لك مقالا كتبه قريبه الرفيق فايز فارس.

منذ أيام، نشر الرفيق فارس خبرا على فايسبوك ضمنه زيارته سنة 1967 مع الأمين توفيق الأشقر إلى الوالد في المطعم، فأحيا ذكرى الموضوع ودفعني لجمع هذه القصص الثلاث ومشاركة الناس بها. الغريب، أن لقاء سنة 1967 بين الأمين توفيق والأمين عجاج كان الأول. فالأمين توفيق الأشقر، على ما أخبرني نسيبه الرفيق فارس، غادر لبنان سنة 1927، وانتمى إلى الحزب في المكسيك، وقامت بينه وبين الوالد صداقة بالمراسلة استمرت لسنوات، وتوجت في ذلك اللقاء.

وبعد، هناك عبرة تربط كل هذه الاحداث.

صاحب المروءة في كل منها لم يأت على ذكرها طوال حياته، ولم يطلب شكرا. ولكن المتلقي هو الذي خبّر عنها. العبرة هي: المحبة القومية التي تعمل بصمت ولا تطلب شكراً، والأخلاق القومية التي تسعى جاهدة لمعرفة صاحب الخير لشكره. إنها “قرضة” سعيد تقي الدين “والوفا”. إن لم يكن للشخص المعني مباشرة، فلذكراه. والأهم، الاقتداء بمروءته والقيام بواجب المروءة حيث يمكن، ودائما بصمت.

*عنوان القصة مقترض من قصة سعيد تقي الدين الشهيرة بنفس العنوان.
 

في هذا العدد<< سنكف… سنكفأخبار متفرقة – الفينيق >>
1 2 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments