1

قراءة في سيرة المناضل القومي جوزف رزقالله (1926-1970)- د. فاتن المرّ

أسئلة كحربة ما فتئت تمزقني خلال قراءتي سيرة المناضل القومي جوزيف رزقالله: كيف نجحوا في تهميش تاريخ كهذا التاريخ العظيم الغني برجالات عز نظيرها؟ كيف نجحوا في تحويل حزب مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تأسس على يد أعظم مفكر ونما على أرواح وأجساد هؤلاء الأوفياء، إلى حزب يجهل وجوده ومبادئه الراقية معظم أبناء الجيل الشاب من هذه الأمة المنكوبة؟ كيف غيّبوا مثالهم الذي كان ليشكل خشبة خلاص لمجتمعٍ يغرق وسط الأمراض الفتّاكة؟ من أراد لأنوارهم أن تخبو؟ من نجح في سرقة هذا الجهد الجبار الذي بذله القوميون على مدى عقود من دون أن يطلبوا شيئاً لأنفسهم؟ قطعوا الجبال والمسافات الطويلة سيراً على الأقدام، في الحر، في الثلج، وتحت المطر، سُجنوا وتحملوا التعذيب، جاعوا وخسروا وظائفهم وأحياناً، كما حصل مع الرفيق رزقالله، تمزقت عائلاتهم، وصودرت أملاكهم. عاندوا المرض والألم في سبيل فكر آمنوا به سبيلاً لإنقاذ وطنهم… من صادر إرث هؤلاء الرسل وحكم عليه بالتشتت؟ من أضعف فعالية تلك المراسلات والمراجعات والقراءات والدراسات التي تحولت ثقافة راسخة وانعكست نمط حياة على جيل بأكمله؟

لحسن حظنا أن التاريخ يتسلل من بين أصابع الطغاة والجهلة، وأن الذاكرة الشفوية تلجأ إلى الكتابة حتى تتحصن ضد النسيان وضد الإخفاء القسري، ولحسن حظنا أن أبناء ورفقاء جوزف رزقالله حملوا الرسالة من بعده وحرصواعلى إيصال سيرته إلى الأجيال الجديدة. يقول عنه الأمين محمد غملوش: “كان الرفيق جوزف لا ينشد سلطة ولا جاهاً ولا مالاً، بل العمل والعمل والعمل فقط من أجل نهضة الأمة وتحقيق غاية الحزب…” (ص. 116) العمل الدؤوب، هذا أولما تستخلصه من سيرة جوزيف رزقالله الغنية. لم يتوقف يوماً، حتى بعد الاعتقال إثر الانقلاب، لم ينشد الراحة، لم يمنح نفسه ترف الاكتئاب أو حتى التقاط الأنفاس، كأن مصير الأمة كان معلقاً على كتفيه وحده، كأنه إن استسلم للنوم قليلاً، لن يصل البريد الحزبي، لن تعمل الفروع، لن تُسَلّم الإعانات إلى العائلات القومية… هذا هو الشعور بالمسؤولية، متعب، مؤلم، وجميل. وقد استوقفتني أيضاً، في قراءتي، هذه العبارات للرفيق ريمون سعدالله: “كان رحب الصدر وصاحب ضحكة مميزة، محاوراً لبقاً، لكنه قاطع كالسيف في ما يختص بالحزب عقيدة ونظاماً، محاسباً قاسياً للجميع بمن فيهم نفسه.” (ص. 182)

وقد تميز أيضاً عمل جوزف رزقالله الحزبي بتنبهه لعملية البناء النفسي للقوميين الشباب الذين كانوا يعملون معه، إذ لم يكن يوفر فرصة ليعطيهم الدروس ساعياً لإعدادهم ليكونوا رجالاً أشداء وقادة متنبهين للمخاطر، مدركين خطورة العمل الذي يقومون به، رافضين المساومة. والأهم من ذلك كله، كان يعنى بتثقيفهم، فلا تختلط لديهم المفاهيم المصطلحات، مما يؤدي إلى فوضى فكرية تؤدي إلى فوضى في النظام، كما حصل ويحصل وسيحصل. أما ثقافته هو، فكان يتابع تنميتها كمن يتابع دراسة يعول عليها لبناء مستقبله فيتابع التفاصيل، يسأل، يتعمق، يجيب، لا يمل من البحث. أين نحن اليوم من ذلك الزمن حيث كل المواضيع تبقى هامشية، حتى لمن اختصوا في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحزبي؟

لن أدخل في تفاصيل المحاضر والمراسلات الحزبية التي تبقى مرجعاً مهماً لكل من يبغي دراسة التاريخ الحزبي والتعمق فيه، ولكنني سأكتفي بالإشارة إلى أن الشهادات الجميلة والجديرة بالقراءة التي قدمها أصدقاء ورفقاء جوزف رزقالله وبقاء كل تلك الذكريات حيّة في وجدانهم رغم مرور الزمن، دليل على تأثرهم الكبير به. وأختم مراجعتي بشهادة ابنه ناصيف الذي يقدم وصفاً مدهشاً لنشاط والده الاستثنائي:

“يصعب تعداد نشاطاته، فهي فعلا لا تعد ولا تحصى، وهذه أبرز مميزاته. فقد اجتهد في تعليم نفسه، فأجاد الفرنسية والإنكليزية قراءة وكتابة عدا عن العربية, ثقافته غير محدودة، فكان على اطلاع تام بالتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة لتحسبه حاصلاً على شهادات عليا في هذه المجالات. لم يدرس المحاسبة، ولكن بفضل اجتهاده ومثابرته أصبح خبيراً بالمحاسبة، بداية في شركة كهرباء صوفر مع والده، ثم عمله في عدة شركات بدوام كامل نهاراً وعمل إضافي ليلاً. أهم ما يوصف به الديناميكية في شخصيته، إذ لم يكن يترك ثانية من وقته دون استغلالها.” (ص.17)